ويلخص ماركيوز نمط الحياة الذي تسوده هذه القيم الجديدة في عبارة «الحياة المسالمة أو الراضية
L’existence pacifiée »، وهي حياة تتسم بالبساطة ومراعاة مطالب الإنسان الحقيقية في كل شيء. وأهم هذه المطالب جميعا، الحاجة إلى السلام، التي تعني أساسا القضاء على روح الهدم والتخريب السائدة في المجتمع الراهن، وهي الروح التي تتمثل في الاستعداد الدائم للعدوان وشن الحروب، وفي الاستخفاف بالحياة البشرية، وإيثار خدمة الموت على خدمة الحياة، والتفنن في التنكيل بالخصوم وإذلالهم.
ويؤكد ماركيوز أهمية الاستمتاع بالوقت الحر؛ أي بما نسميه الآن وقت الفراغ، في المجتمع الجديد. فعلى حين أن المجتمع الحالي يسيء استغلال هذا الوقت لخدمة أغراضه الاستهلاكية الخاصة، ولنشر القيم التي تدعم النظام القائم، فإن مجتمع المستقبل يجعل لهذا الوقت أهمية قصوى، نظرا إلى ضآلة الوقت الذي سيقضيه الإنسان في عمله، وإلى أن هذا العمل ذاته يتخذ طابعا أشبه باللعب. ففي الوقت الحر تتاح للإنسان فرصة حقيقية لكي يستعيد ذاته، ويحقق التوافق مع نفسه ومع الآخرين، بل إن النشاط الذي يمارسه الإنسان في هذا الوقت سيصبح هو الغاية، على حين أن نشاطه في العمل سيصبح مجرد وسيلة. وأهم عناصر شغل هذا الوقت الحر هي الاستمتاع بالقيم الجمالية، التي هي - في نظر ماركيوز - الشرط الأساسي لاكتمال شخصية الإنسان.
ويبدي ماركيوز اهتماما كبيرا بالحاجة إلى الهدوء، وإلى انفراد المرء بنفسه
étre seul
والاقتصار على الاختلاط بمن يختارهم هو ذاته، وحاجة كل إنسان إلى الاستمتاع بخصوصية الحياة؛ أي بمجال خاص به
sphére privée
ولذلك كان يتصور المجتمع الجديد، لا على أنه مجتمع جماهيري
société de masse
بل مجتمع مؤلف من مجموعات صغيرة من الأشخاص الأحرار، يعيشون في مدن خلت من قبح التصنيع الرأسمالي، يستعان فيها بالتكنولوجيا، وبالقدرات الجمالية لدى الإنسان، من أجل تغيير وجه العالم بحيث يغدو ملائما لحياة قائمة على السعادة الحقة، السعادة التي لا تشترى ولا تمنح لقاء ربح.
صفحة غير معروفة