كانت وسيلة ماركيوز لرسم معالم المجتمع الجديد هي أن يعيد تفسير أفكار فرويد على نحو يتيح تعويض ما يفتقر إليه الفكر الماركسي، أو التوفيق بين تعاليم فرويد، وبين آراء ماركس الشاب مع مزجهما معا بعناصر من نيتشه، بحيث يصبح المركب الناتج ملائما لروح العصر الحاضر.
ذلك لأن ماركس - في ظروف عصره الخاصة - قد ربط بين تقدم الإنسانية وبين العمل، بحيث أصبح من الأمور المسلم بها فيما بعد أن حضارة الإنسان المعاصر في صميمها حضارة عمل، وأن الإنسان - في أحسن الظروف - لا يستطيع أن يحيا حياة أفضل إلا بقدر ما يبذل في عمله من جهد. ولقد كانت نتيجة ذلك أن تركز الاهتمام على القيم العقلية التي تتيح ترشيد العمل في سبيل الوصول إلى إنتاج أوفر ، وعلى القيم الأخلاقية التي تسمح بتحقيق توزيع عادل لثروة المجتمع. وخلال ذلك كله نسيت قيمة «السعادة» التي ترتبط أساسا بحياة الإنسان البيولوجية، وأغفلت مشاعر الإنسان الحسية وحاجاته الحيوية، وتركز الاهتمام على الحاجات العقلية والاقتصادية فحسب. وعلى الرغم من أن ماركس قد أشار إلى عناصر أساسية يستحيل بدونها أن تحقق الإنسانية تقدما حقيقيا، فإن عنصر «الغريزة» وتحقيق الرغبات الحيوية كان مفتقدا تماما في كتاباته، إذا استثنينا بعض الإشارات غير الواضحة في كتابات الشباب. «إن الإنسان عند ماركس يظل دائما الإنسان العامل، المنتج، وعلى قدر جهده يمكنه أن يحرز تقدما. أما الإنسان الحي بغرائزه وإرادته ونزوعه إلى الحب، فلا مكان له في فكر ماركس.» على أن ماركيوز يؤمن بأن القوى الإنتاجية قد وصلت في مجتمعنا المعاصر، بفضل التقدم التكنولوجي الهائل، وتطبيق مبدأ التسيير الذاتي (الأتمتة) على نطاق واسع، إلى مستوى يسمح للإنسان بأن يعود مرة أخرى إلى الاستمتاع بحيويته، ويتيح له أن ينهل من منابع غريزته المتدفقة، ليستعيد تلك «السعادة» أو «اللذة» التي حرمه إياها مجتمع الإنتاج والعمل. لقد أصبح الإنسان قادرا على أن يشيد عالما مزدهرا يتخلص فيه من العمل القاهر، ويكتفي بعمل أشبه باللهو أو اللعب، لكي يتفرغ للاستمتاع بغرائزه الطبيعية، لا على مستوى بدائي، بل على أرفع مستوى تتيحه له الحياة الحديثة. ولنقل، بلغة ماركيوز، إن في استطاعة الإنسان اليوم أن يستعيض عن حضارة العمل الشاق والصناعة بحضارة «الإيروس»
Eros
مفهوما بهذا المعنى الواسع؛ أي بمعنى العودة إلى المنابع الحيوية للإنسان، والاستمتاع بالغريزة إلى جانب العقل، واستعادة الحب الذي تجاهله المجتمع الصناعي أو ابتذله شر ابتذال. «إن الإنسان بحاجة إلى ثورة جديدة تتجاوز نطاق الثورة الاجتماعية، ثورة تعيد إليه قيمة السعادة الحيوية وترد إليه وعيه بالغريزة وإحساسه بالجمال. مثل هذه الثورة لا نستطيع أن نسترشد فيها بتعاليم ماركس (وإن كانت هذه التعاليم تقدم في الواقع الأساس الذي لا يمكن تحقيقها بدونه)، بل ينبغي علينا أن نلجأ، من أجل استيضاح معالمها، إلى فرويد .»
ومن واجبنا أن ننبه القارئ إلى أن ماركيوز لا يبحث آراء فرويد وفي ذهنه أن يتعمق في أساليب التحليل أو العلاج النفسي، بل إن كتاباته عن فرويد، وخاصة كتابه الهام «الإيروس والحضارة
Eros et Civilisation » تتخذ على الدوام وجهة نظر الفيلسوف، وفيلسوف الحضارة على وجه التخصيص. ومن هنا فإنه لم يهتم كثيرا بمؤلفات فرويد التي تعرض نظرياته العلاجية، بل كان اهتمامه مركزا على كتابات فرويد ذات الطابع الحضاري والفلسفي.
في هذه الكتابات عرض فرويد فكرة «الإيروس» بوصفه الطاقة التي تكمن في أصل كل حضارة. وذلك لأن نمو الفرد؛ أي انتقاله من الأنانية إلى الغيرية، وكذلك نمو الإنسانية، يفترض مقدما عامل الحب، سواء في صورته الجنسية المباشرة، أو صورته المتسامية المحورة. فنمو الفرد يتحقق حين يعمل الطفل حسابا للواقع وينظم سلوكه على أساسه، بعد أن كان يبحث عن إشباعه المباشر ثم إدراك ما يضعه العالم أمام هذا الإشباع المباشر من عقبات. ونمو المجتمع يتم بإعلاء مماثل للطاقة التي لا تستطيع التعبير عن نفسها مباشرة، بل تتخذ لنفسها تعبيرات غير مباشرة، تتمثل في المبادئ الأخلاقية والدينية، وفي التعبير الفني والأدبي.
ومعنى ذلك أن الحضارة تفرض على الإنسان ألوانا من القهر، وأنواعا من التحريمات؛ أي أن التحضر هو في أساسه تغيير لطبيعة الإنسان الأصلية، وطرح لمبدأ اللذة المباشرة في سبيل الخضوع للأمر الواقع. وكلما ازدادت الحضارة نموا، انتصر «مبدأ الواقع» على «مبدأ اللذة» وازداد التحكم في الغرائز الطبيعية عن طريق النظم والقوانين، ومع ذلك فإن مبدأ اللذة لا يختفي تماما، وإنما يظل يفصح عن نفسه في صور غير مباشرة يحاول فيها التخلص من سيطرة مبدأ الواقع؛ كالحلم والخلق الفني والخيال، وهي صور ينبثق فيها المكبوت ويفصح عن نفسه. والمهم في الأمر أن الكبت هو الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تقدمه الحضاري. وهكذا يظل الإنسان يعمل وينتج، بدلا من أن يستجيب لدوافعه الطبيعية، ولا سيما الجنس، ما دامت الموارد لا تكفي لإعاشة أفراد المجتمع بلا عمل؛ فالإيروس إذا ترك وحده يمنع الإنسان من العمل، ويحرم المجتمع من وسائل العيش، ومن هنا كان لا بد من طرحه جانبا، والتركيز على الإنتاج والعمل. أي أن الإيروس عاجز عن إقامة الحضارة؛ ولذلك كان من الواجب إنكاره إذا أراد المجتمع أن يقيم لنفسه حضارة مرتكزة على الجهد والعمل.
إن المجتمع، في رأي فرويد، يحتاج إلى الكبت لكي يبني حضارته، وهذا رأي لا يملك ماركيوز إلا أن يوافق عليه، وما أظن أن أحدا يستطيع أن يجادل في الفكرة القائلة إن مجرد تكوين مجتمع يعني تنازل الأفراد عن قدر من حاجاتهم ورغباتهم المباشرة في سبيل مبدأ أعم منهم. ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا أن نظرية العقد الاجتماعي، بل نظريات الفلاسفة القدماء - وعلى رأسهم أفلاطون - في تكوين المجتمع، تنطوي على رأي مواز لرأى فرويد هذا، ولكن على المستوى الاجتماعي بدلا من المستوى النفسي. ولكن فرويد لا يكتفي بذلك، بل يؤمن بأن عكس القضية السابقة صحيح أيضا؛ أي بأنه لا حضارة بدون كبت أو قمع، وبأن من المستحيل قيام حضارة بلا كبت. وهذا ما يعترض عليه ماركيوز.
ذلك لأن قضية فرويد تظل صحيحة صحة نسبية؛ أي أنها تسري على المجتمعات التي كان ضيق الإنتاج فيها يحتم تعبئة كل الموارد من أجل العمل، ويحتم بالتالي تجاهل الإيروس. ولكن مجتمعنا الحالي تظهر فيه، لأول مرة، بوادر تدل على إمكان الاستغناء عن القمع، وإقامة حضارة لا ترتكز على الكبت، تكون هي الحضارة «المطلقة» الوحيدة التي يمكن تصورها؛ ذلك لأن المجتمع الصناعي الحالي أصبح قادرا على تحقيق قدر هائل من الوفرة، وأصبح من الممكن، عن طريق التقدم التكنولوجي الهائل، وانتشار الآلية الذاتية (الأوتومية)، أن يتوافر الأساس المادي الذي يتيح انتقال المجتمع إلى شكل جديد للحضارة لا يعود فيه العمل الشاق ضروريا، بل يتفرغ فيه الإنسان لتحقيق طبيعته الحيوية، فالآلات أصبحت قادرة على أن تسير بذاتها، مع حد أدنى من التدخل الإنساني، وأن تنتج في الوقت ذاته بوفرة لم يكن يحلم بها الإنسان في أي عهد مضى. وعن طريق هذا التحول التكنولوجي الحاسم، يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاغتراب الذي يعانيه في العمل المادي الشاق، وأن يكرس إنتاجه الوفير لصالح قواه الإنسانية، ويحقق ذاته لأول مرة في تاريخه الطويل.
صفحة غير معروفة