من هذه النماذج لطريقة ماركيوز في تفسير المفاهيم والمذاهب الفلسفية، يتبين لنا بوضوح أنه كان له، ككل فيلسوف ذي شأن، منهجه الخاص في النظر إلى التراث السابق عليه، فهو قد أعاد بناء هذا التراث من منظوره الخاص، وفسر الأفكار والمذاهب وفقا لنظرته الخاصة إلى العالم الذي يعيش فيه، وللدور الذي يود أن يقوم به في هذا العالم بوصفه مفكرا، وقد تكون هذه الطريقة غير مرغوب فيها بالنسبة إلى المؤرخ، الذي تعد الموضوعية فضيلته الرئيسية. أما في حالة الفيلسوف فإن تمثل الماضي من جديد لا يعد نقيصة على الإطلاق ، بل إنه ليبدو - من فرط شيوعه بين الفلاسفة - كما لو كان شرطا لكي يصبح المرء فيلسوفا له طريقه الخاص؛ فمعظم الفلاسفة الكبار مؤرخون سيئون للفلسفة، إذا حكمنا عليهم بمقياس التعبير الموضوعي عن آراء الغير؛ ذلك لأن الفيلسوف الذي يتسم بالأصالة لا يستطيع أن ينسى نفسه حتى وهو يسترجع آراء الآخرين؛ إنه لا يقبل أن يكون مرآة تنعكس عليها أفكار السابقين، بل يريد أن يتخذ من هذه الأفكار وسيلة أو أداة تتيح له أن يعبر عن الطريق الذي اختطه لنفسه على نحو لا تنقطع روابطه بتراث الفكر الماضي، وربما كان يريد أن يجعل من ذلك الماضي كله وسيلة لتبرير فلسفته وإثبات أن التاريخ بأسره يشير إليها ويتجه نحوها.
وليس من شك في أن عرض ماركيوز للتراث الفلسفي السابق عليه مليء بالمآخذ، وأن طريقة فهمه لهيجل والوضعيين، وكذلك لماركس وفرويد وهيدجر، لا ترضي الباحث المتخصص. ولكننا إذا أدركنا أن ماركيوز إنما أراد أن يعبر عن نفسه من خلال هؤلاء جميعا، لغدونا أكثر استعدادا لغفران أية أخطاء في تفسيره للآخرين، ولقبول وجهة نظر «نيكولاس» القائلة: «إن هرطقات ماركيوز هي حقيقة ماركيوز.»
11
Les hérésies de Marcuse sont la verité de Marcuse .
النقد الاجتماعي
لعل أبرز النقاط التي تلاقى فيها فكر ماركيوز مع الفلسفة الماركسية هي موقف هذه الفلسفة من مشكلة ماهية الإنسان - التي تمثل عند ماركيوز مشكلة أساسية كفيلة بتحديد الاتجاه العام لكل فلسفة، وبالكشف عن مدى تقدميتها أو رجعيتها - فالماركسية هي في رأيه فلسفة تقدمية لأنها لا تثبت الماهية الإنسانية عند أية لحظة معينة من لحظات تطورها، بل إن الإنسان يمكنه في كل لحظة أن يصبح على خلاف ما هو عليه، ومن ثم فإن الإنسان لا يفهم إلا في حركته الدينامية ولا يمكن أن يستوعب من خلال ما يكون عليه في أية لحظة بعينها، وبعبارة أخرى فليس هناك حد فاصل بين تاريخية الإنسان وبين تحقيق ماهيته، فحياة الإنسان في كل عصر معين تستهدف تحقيق شكل جديد، ومن ثم فهي لا تتحقق كاملة في أي شكل محدد من الأشكال التي تتخذها عبر التاريخ ، أو لنقل بلغة فلسفية إن الواقع والممكن متداخلان ، ومن المحال أن يفهم أحدهما من دون الآخر.
في الماركسية إذن نجد القطب المضاد لعالم الماهيات الأزلية الساكنة الذي يتم فيه تحديد حقيقة الإنسان - فضلا عن حقيقة الأشياء - مرة واحدة وإلى الأبد. فهي فلسفة تؤكد لنا أن البناءات التي يمكن أن تفهم من خلالها حقائق المجتمع لا تفهم في أية لحظة إلا فهما جزئيا، ومن ثم فإن تجاوز الواقع الراهن لهذا أمر لا بد منه من أجل فهم حقيقته المتطورة. هذه الحقيقة المتطورة هي التي تدفع المجتمعات البشرية في حركة لا تتوقف، تستهدف على الدوام إزالة المتناقضات التي تقتضيها كل مرحلة من مراحل الإنتاج، وترمي آخر الأمر إلى فهم الإنسان من خلال ما يستطيع أن ينجزه، لا من خلال ما أنجزه بالفعل. «هذا الفهم للماركسية - الذي كان في أساسه فهما هيجليا - كان يعني أن النظرية الماركسية ذاتها لا يمكن أن تكون تعبيرا عن حقائق أزلية، وإنما هي تصدق أساسا على مرحلة معينة من مراحل التطور، هي مرحلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر.»
فالماركسي المخلص - في نظر ماركيوز - لا بد أن يطبق معيار التطور والتاريخية والتجدد الدائم على النظرية الماركسية ذاتها، وفي هذه الحالة يتعين عليه أن يمتنع عن تثبيت هذه النظرية في «عقيدة» جامدة يفترض أنها تسري على الصور اللاحقة جميعا، بل يجب أن يتأمل النظرية ذاتها في ضوء التداخل الذي تقول به بين الواقع والممكن. وفي هذه الحالة - أي حين نطبق على الماركسية معيارها الخاص - يصبح من الضروري أن نعيد تفسيرها في ضوء الظروف الدائمة التغير، وأن تخضع ماركسية القرن التاسع عشر لنقد مستمد من ظروف القرن العشرين. «لقد كانت الماركسية التقليدية تفترض تناقضا أساسيا هائلا يقوم في قلب المجتمع الرأسمالي، ويهيئ الظروف الموضوعية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هو التناقض بين طبقة من أصحاب الأعمال تتزايد قوتها، وتعمل دائما على زيادة الإنتاج من أجل تكديس أرباحها، وتتركز فيها بالتدريج السلطة الاقتصادية التي تندمج مع السلطة السياسية، وتتحول آخر الأمر إلى رأسمالية الدولة؛ وطبقة عمالية تزداد فقرا نتيجة لحرص الرأسمالية على ضمان أرباحها، ولكنها تزداد في الوقت ذاته وعيا بوضعها الطبقي، وبأنها هي القادرة على تحقيق الثورة وعلى تجسيد آمال البشرية في مستقبل أفضل، ومن ثم فإنها تعمل تنظيم نفسها بطريقة واعية محكمة تكفل لها تحقيق هدفها في الثورة العالمية.» «على أن المسار الفعلي للأحداث، منذ بداية القرن العشرين، قد سار في اتجاه مختلف عن ذلك كل الاختلاف»؛ فالبلاد الرأسمالية الكبرى لم تزد فيها حدة التناقض بين الطبقتين الرئيسيتين، ومن ثم فقد أخذت تتباعد عن تحقيق الظروف المؤدية إلى قيام الثورة، والبلاد التي قامت فيها تجارب اشتراكية مرتكزة - من حيث المبدأ - على النظرية الماركسية، قد ابتعدت في سلوكها الفعلي ابتعادا شبه تام عن أصول هذه النظرية ومبادئها، ولم تحاول تطويرها على النحو الكفيل بمواجهة واقع دائم التغير.
وهكذا فإن الواقع قد تجاوز النظرية الماركسية التقليدية، سواء في المجتمعات التي أنكرتها أو في تلك التي اعترفت بها. ومن هنا كان من الضروري في رأي ماركيوز القيام بمراجعة لهذه النظرية في ضوء الظروف الراهنة. ولقد قام هو ذاته بهذه المراجعة، ولكن حصيلتها النهائية لم تكن في واقع الأمر تعديلا للنظرية، بل تغييرا شاملا لها، واستعاضة عنها بنظرية خاصة به، يعتقد أنها أكثر ملاءمة لواقع العالم المعاصر، وهي نظرية لم يحتفظ فيها من الماركسية إلا بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه من قبل؛ وأعني به أن ماهية المجتمع الإنساني لا تنفصل عن تاريخه، وأن الواقع - في أية مرحلة من مراحل التطور - لا يفهم إلا في ضوء إمكاناته الكامنة التي لم تتكشف بعد، والتي يتعين على كل من يتصدى لدراسة المشكلات الاجتماعية أن يضعها في اعتباره عند أي تحليل يقوم به للوضع الراهن. (أ) نقد المجتمع الرأسمالي
كان القهر، وما زال، حقيقة أساسية من حقائق المجتمع البشري. غير أن أشكال القهر قد اختلفت باختلاف العصور، ويمكن القول إن أعجب أنواع القهر وأقواها تسلطا هي تلك التي تمارس في عصرنا الحالي؛ ففي العصور الماضية كان يمارس القهر والسيطرة طاغية أو حاكم مطلق، يعترف صراحة بأن تصرفاته لا تقوم على أساس من العقل أو المنطق، بل على أساس من الانفعالات الوقتية العابرة، أما في المجتمع الصناعي، الذي بلغ أقصى درجات تقدمه في البلاد الرأسمالية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، فإن الطغيان يمارس على أساس من المعقولية التامة، وفي ظل الحساب الدقيق لكل الظروف والاحتمالات، دون أن تتدخل فيه نزوات حاكم مستبد أو أهواء سلطة عنيدة.
صفحة غير معروفة