ومن الناحية الثقافية، عاش هيجل في العصر الذهبي للأدب الألماني، وبالرغم من كونه أصغر من جوته بعشرين عاما، ومن شيلر بعشرة أعوام، فقد كان كبيرا بما يكفي ليدرك قيمة جميع أعمالهما الناضجة عند ظهورها. كان هيجل صديقا مقربا للشاعر هولدرلين، وعاصر رواد الحركة الرومانسية الألمانية، بما فيهم نوفاليس وهيردر وشلايرماخر والأخوان شليجل. كان لجوته وشيلر أثر عظيم على هيجل، وبالطبع تأثر ببعض أفكار الحركة الرومانسية على الرغم من أنه رفض معظم المبادئ التي كان ينادي بها أتباع تلك الحركة.
شكل : يوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832).
كان أكثر التطورات أهمية في حياة هيجل هو وضع الفلسفة الألمانية خلال الفترة التي عمل بها. ولكي نعي خلفية أفكار هيجل، نحتاج أن نبدأ هذه القصة بالفيلسوف كانط ونوضح بإيجاز ما حدث بعد ذلك.
عام 1781 نشر إيمانويل كانط كتاب «نقد العقل المحض»، الذي يعد الآن أحد أعظم الأعمال الفلسفية على الإطلاق. وشرع كانط فيه بتحديد ما يمكن لعقلنا أو فكرنا تحقيقه من عدمه في طريق المعرفة. وقد استنتج أن عقولنا ليست مجرد مستقبل سلبي للمعلومات التي نستخلصها عن طريق أعيننا وآذاننا وغيرها من الحواس. إن المعرفة تكون ممكنة فقط لأن عقلنا يضطلع بدور فعال؛ حيث ينظم الأشياء التي نختبرها ويصنفها. نحن ندرك العالم في إطار المكان والزمان والمادة، لكن تلك الأشياء ليست حقائق موضوعية موجودة «في الخارج»، على نحو مستقل عنا؛ فهي نتاج حدسنا أو عقلنا، اللذين من دونهما لم نكن لندرك العالم. وعليه، قد يتساءل شخص ما بطبيعة الحال عن ماهية العالم في الحقيقة بصرف النظر عن الإطار الذي ندركه من خلاله. يرى كانط أن هذا التساؤل لا يمكن الإجابة عليه مطلقا؛ فالواقع المستقل - الذي يطلق عليه كانط عالم «الشيء في ذاته» - يتخطى دائما حدود معرفتنا.
لم يكن الفضل يرجع لكتاب «نقد العقل المحض» وحده في شهرة كانط الكبيرة في حياته؛ فقد كان له كتابان آخران في النقد؛ وهما كتاب «نقد العقل العملي» حول الأخلاق، وكتاب «نقد ملكة الحكم» الذي يتناول جزء كبير منه الجمال. وقد صور كانط الإنسان في كتابه «نقد العقل العملي» في هيئة كائن قادر على اتباع قانون أخلاقي عقلاني، لكنه أيضا عرضة لأن ينحرف عنه بسبب الرغبات غير العقلانية المتأصلة في طبيعتنا المادية. وهكذا، فإن التصرف بصورة أخلاقية دائما ما يشكل صراعا. ولتحقيق النصر في هذا الصراع، يجب كبح جماح جميع الرغبات، ما عدا احترام القانون الأخلاقي الذي يقودنا إلى القيام بواجبنا لذاته. وعلى عكس وجهة النظر هذه التي ترى أن الأخلاقيات تستند فقط إلى أوجه التفكير العقلاني في الطبيعة البشرية، يصور كانط التذوق الجمالي في كتابه «نقد ملكة الحكم» في هيئة اتحاد متناغم بين إدراكنا وخيالنا.
شكل : إيمانويل كانط (1724-1804).
في الكلمات الختامية من كتابه «نقد العقل المحض»، يعبر كانط عن أمله في أنه باتباع طريق الفلسفة النقدية الذي سلكه يمكن «قبل أن ينتهي القرن الحالي» أن يتحقق ما عجزت العديد من القرون السابقة عن تحقيقه؛ ألا وهو «منح العقل البشري رضا كاملا عما طالما أثار فضوله، لكن دون جدوى حتى الآن.» إن الإنجاز الذي حققه كانط كان عظيما لدرجة أنه في وقت ما بدا حقا - ليس من وجهة نظر كانط وحده، بل وقرائه أيضا - كما لو أن الأمر لا يحتاج سوى بعض التفاصيل لإتمام جميع جوانب الفلسفة. ومع ذلك، بدأت تظهر تدريجيا حالة من عدم الرضا تجاه كانط مع مرور الوقت.
كان مصدر عدم الرضا الأول هو فكرة كانط «الشيء في ذاته»؛ فوجود شيء ما مع عدم القدرة على إدراكه بالكامل، بدا كتحديد غير مقبول لقوى العقل البشري. ألم يكن كانط يناقض نفسه عندما قال إننا يمكن ألا نعرف شيئا عن شيء ما، ومع ذلك نزعم إدراكنا لوجوده وكونه «شيئا»؟ كان يوهان فيخته هو من اتخذ الخطوة الجريئة بإنكار وجود فكرة «الشيء في ذاته»، وبهذا يكون أكثر إخلاصا لفلسفة كانط - كما أكد - من كانط نفسه. فمن وجهة نظر فيخته، أن العالم بأكمله يجب أن يدرك بوصفه شيئا تشكله عقولنا النشطة. فما لا يدركه العقل هو شيء غير موجود.
أما المصدر الثاني لعدم الرضا عن أفكار كانط، فكان انقسام الطبيعة الإنسانية الذي تضمنته فلسفة كانط الأخلاقية. وهنا كان شيلر من بدأ الهجوم على كانط في كتابه «محاضرات عن التربية الجمالية للإنسان»؛ فهو أيضا رأى نفسه كمن يخلص لكانط أكثر من كانط نفسه؛ حيث استخلص من كتابه «نقد ملكة الحكم» نموذج الحكم الجمالي باعتباره اتحادا بين الإدراك والخيال. قطعا - كما أشار شيلر - ينبغي أن تكون حياتنا بأكملها متناغمة على نحو مماثل؛ فتصوير الطبيعة البشرية على أنها دائمة الانقسام بين العقل والعاطفة، وأن حياتنا الأخلاقية في صراع سرمدي بين كليهما، هو أمر مهين وانهزامي. كما أشار شيلر إلى أن كانط ربما كان يصف بدقة الحالة المؤسفة للحياة البشرية اليوم، لكن الحياة لم تكن دوما هكذا، ولا داعي لأن تستمر على هذا النحو للأبد. ففي اليونان القديمة - التي ينظر إليها بإعجاب شديد لنقاء أشكالها الفنية - كان هناك اتحاد متناغم بين العقل والعاطفة. ولوضع أساس لاستعادة هذا التناغم الذي طال غيابه عن الطبيعة البشرية، شجع شيلر على إحياء الحس الجمالي في أوجه الحياة كافة.
كتب هيجل لاحقا أن فلسفة كانط «تشكل أساسا ونقطة انطلاق للفلسفة الألمانية الحديثة.» ويمكننا إضافة أن فيخته وشيلر - كل بطريقته الخاصة - أوضحا الاتجاهات التي يجب أن تتخذها هذه الانطلاقات. فمن وجهة نظر الفلاسفة الذين جاءوا بعد كانط، كان مفهوم الشيء في ذاته الذي لا يمكن إدراكه، وتصور أن الطبيعة البشرية منقسمة على نفسها، مشكلتين تحتاجان إلى حلول.
صفحة غير معروفة