إن تأثير هيجل وحده يجعل من المهم فهم فلسفته؛ لكن فلسفته في جميع الأحوال تستحق الدراسة لذاتها؛ فقد أوصلته أفكاره العميقة إلى بعض الاستنتاجات التي تصدم القارئ المعاصر باعتبارها غريبة، بل عبثية. لكن مهما اختلفت الآراء حول تلك الاستنتاجات، تظل هناك أطروحات ورؤى في أعماله تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا. وتلك الأطروحات والرؤى هي التي ستعوض القارئ عن الجهد الذي يبذله في محاولة فهم فلسفة هيجل، بالإضافة إلى حالة الرضا التي ستتولد لديه نتيجة نجاحه في التغلب على التحدي الذي يمثله هيجل لقدرتنا على الاستيعاب.
لا شك في أن فلسفة هيجل تمثل تحديا في فهمها؛ فالتعليقات على أعمال هيجل مليئة بإشارات إلى «الصعوبة البالغة» لكتاباته، و«مصطلحاته المنفرة»، و«الغموض الشديد» لأفكاره. ولتوضيح طبيعة المشكلة، قمت للتو بالتقاط نسختي من الكتاب الذي يعتبره الكثيرون أعظم أعمال هيجل؛ وهو «فينومينولوجيا العقل»، وقمت بفتحه على صفحة عشوائية، وكانت أول جملة كاملة في تلك الصفحة (ص596) تقول: «فهو ليس إلا التقالب الدائب لهذه اللحظات التي تكون الواحدة منها الكون الآيب إلى ذاته، لكن ككون لذاته وحسب؛ أي كلحظة مجردة، تنحو جانبا حيال اللحظات الأخرى.» ومع أنني أقر باقتطاع الجملة من سياقها، فهي مع ذلك توضح بعض الصعاب التي يواجهها المرء في فهم لغة هيجل. ويمكن العثور على جمل على الدرجة نفسها من صعوبة الفهم في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الواقع في 750 صفحة.
إن شرح أعمال فيلسوف مثل هيجل في كتاب قصير يخاطب جمهورا لا يملك معرفة مسبقة بأعماله ليس بمهمة سهلة. ولكي أجعل هذه المهمة أيسر قليلا، قمت بأمرين؛ الأمر الأول هو أنني قيدت نطاق موضوع الكتاب؛ إذ لم أحاول تقديم عرض شامل لجميع أفكار هيجل؛ لذا لن يجد القارئ في هذا الكتاب أي عرض لما قاله هيجل في كتاب «محاضرات في علم الجمال»، أو كتاب «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، أو كتاب «محاضرات في فلسفة الدين»، أو أي شيء عن كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية»، إلا عندما تتداخل هذه الأعمال مع الأعمال الأخرى التي سأناقشها (بالنسبة للكتاب الأخير، سيكون التداخل كبيرا؛ فبه الجزء المهم الذي يتناول فلسفة الطبيعة، والذي لم يتناوله في أي من أعماله الأخرى). إن هذه الكتب مهمة بالتأكيد، لكنني أعزي نفسي عندما أعتقد أن هيجل نفسه لم يكن ليعتبر تلك الكتب محورية على الإطلاق في نسقه الفلسفي. لكن الأكثر أهمية، هو عدم تقديم عرض تفصيلي لكتاب هيجل «علم المنطق» الذي أعتبره بالطبع أحد أعماله الرئيسية. لقد حاولت تقديم نبذة عن هدف الكتاب ومنهجه وبعض الأفكار التي جاءت فيه، لكن الكتاب طويل جدا، ولغته مجردة جدا، حتى إن أي عرض مناسب له - من وجهة نظري - يتجاوز نطاق أي مقدمة قصيرة عن هيجل.
أما الجزء الثاني من الاستراتيجية التي اتبعتها لأجعل أفكار هيجل الشديدة التعقيد في متناول القارئ غير المتخصص، فهو اختيار أيسر أسلوب ممكن في العرض؛ لذلك بدأت بأكثر أفكار هيجل مادية وأقلها تجريدا؛ ألا وهي فلسفته حول التاريخ. ومن هناك - مع التزام هذا المستوى الاجتماعي والسياسي - انتقلت إلى آرائه حول الحرية والتنظيم العقلاني للمجتمع. وحينئذ فقط شرعت في رحلة شاقة عبر الأفكار الأكثر تعقيدا التي يتضمنها كتاب «فينومينولوجيا العقل»، ومن بعده عرجت بقليل من الجهد الإضافي لتقديم نظرة سريعة على كتابه «علم المنطق».
قد يعترض الباحثون المتخصصون في فلسفة هيجل على مجموعة الأعمال التي اخترت مناقشتها في هذا الكتاب، أو على الترتيب الذي اتبعته عند تناولها. وقد أشرت بالفعل إلى أن الترتيب ليس المقصود منه الإيحاء بأي شيء يتعلق بالطريقة التي كان هيجل سيختارها لعرض أفكاره. وفيما يتعلق بمجموعة الأعمال التي اخترت عرضها، لا أزعم أن هيجل كان يرى أن كتاب «محاضرات في فلسفة التاريخ» أكثر أهمية - مثلا - من الجزء الذي يناقش فلسفة الطبيعة في «موسوعة العلوم الفلسفية»؛ فكل ما أعلمه هو أنني لا أملك مساحة لمناقشة الكتابين معا، وأنا على يقين من أن فلسفة هيجل حول التاريخ كانت أكثر أهمية لتطور الفكر الحديث، وتظل إلى يومنا هذا أكثر إمتاعا للقارئ غير المتخصص من فلسفته حول الطبيعة (لا تنخدع بالعنوان؛ إذ إن فلسفة هيجل حول الطبيعة لا تتضمن تأملاته حول أهمية الغابات والجبال وجمالها، بل هي محاولة من هيجل ليبرهن على أن اكتشافات العلوم الطبيعية - مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء، وغيرها - تطابق تصنيفاته المنطقية. وقد ثبت أن كثيرا من تلك الأفكار في هذا المجال قد عفى عليها الزمن؛ فعلى سبيل المثال، دحضت معرفتنا بنظرية التطور وجهة نظره القائلة بأن الطبيعة لا يمكن أن تتطور). لذلك قد تأثرت اختياراتي بثلاثة عوامل منفصلة؛ وهي: ما يعد رئيسيا بالنسبة لفكر هيجل، وما يمكن للقارئ غير المتخصص أن يفهمه في حدود مساحة هذا الكتاب، وما لا يزال مشوقا ومهما للناس في العصر الحاضر.
أنا مدين لعدد كبير من الأشخاص برؤيتي حول فلسفة هيجل التي سأعرضها في الصفحات التالية؛ ففي جامعة أكسفورد، حالفني الحظ عندما تمكنت من حضور مجموعتين من المحاضرات المميزة التي قام بتقديمها جيه إل إتش توماس، الذي أجبر طلابه على التدقيق في كل جملة من بعض فقرات كتاب «فينومينولوجيا العقل» حتى يصلوا إلى معناها. وقد توجت محاضرات باتريك جاردينر الأكثر شمولا حول «المثالية الألمانية» العمل التفصيلي الذي قمنا به في تلك المحاضرات. كما أدين بالفضل لمؤلفي الكتب التي اقتبست منها أفضل أفكارهم - وهذا ما أتمناه - بحرية. ومن أبرز تلك الكتب كتاب ريتشارد نورمان «فينومينولوجيا هيجل»، وكتاب إيفان سول «مقدمة حول ميتافيزيقا هيجل»، بالإضافة إلى كتابين بعنوان «هيجل» كتب أحدهما تشارلز تايلور والآخر والتر كوفمان. وقد قام بوب سولومون بقراءة النسخة الأصلية للكتاب، المكتوبة على الآلة الكاتبة واقترح بعض التعديلات، وهكذا فعل هنري هاردي، وكيث توماس، ومصحح مطبعي لا أعرفه تابع لمطبعة جامعة أكسفورد.
ولا يتبقى سوى التوجه بالشكر إلى جان آرشر لكتابتها المتقنة لمحتوى الكتاب على جهاز الكمبيوتر، وروث وماريون وإستر لسماحهم لي بالعمل بعض الوقت خلال عطلاتهم الصيفية.
بيتر سينجر
الفصل الأول
عصر هيجل وحياته
صفحة غير معروفة