ينبغي أن تكون وجهة نظر هيجل الآن قد بدت منطقية بما يكفي بوصفها نقدا للمفهوم السلبي للحرية. ومع ذلك، ماذا ينوي أن يضع مكانه؟ فجميعنا يجب أن يحيا في مجتمع محدد وفترة محددة من التاريخ. وسنتشكل جميعا بواسطة المجتمع والعصور التي نحيا فيها. فكيف يمكن إذن للحرية أن تكون أي شيء بخلاف حرية أن نفعل ما تسوقنا القوى الاجتماعية والتاريخية إلى فعله؟
الحرية والواجب
بعض رغباتنا هي نتيجة لطبيعتنا، مثل الرغبة في الأكل التي ولدنا بها، أو الرغبات الجنسية التي ولدنا بإمكانية تنميتها. وتشكلت معظم رغباتنا الأخرى نتيجة لنشأتنا وتعليمنا والمجتمع الذي نحيا فيه والبيئة المحيطة بنا عموما. وسواء أكان أصل هذه الرغبات بيولوجيا أو اجتماعيا، ففي كلتا الحالتين نحن لم نخترها. ونظرا لأننا لم نختر رغباتنا، فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا.
هذه الحجة تذكرنا بكانط أكثر مما تذكرنا بهيجل، لكن هيجل يتفق معها حتى حد معين. لنتتبع هذه الحجة لأبعد من ذلك قليلا. إذا لم نكن أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا، فحينها يبدو أن الطريق الوحيد الممكن نحو الحرية هو تطهير أنفسنا من كل الرغبات. لكن ماذا سيتبقى لنا حينئذ؟ يجيب كانط عن هذا السؤال بقوله: العقل. إن الدافع للعمل يمكن أن يأتي من الرغبات أو من العقل. تخلصوا من الرغبات، وسيتبقى لنا عقل عملي خالص.
إن فكرة كون الأفعال تستند إلى العقل وحده ليس من السهل استيعابها. يمكننا التحدث بسهولة عن كون أفعال شخص ما عقلانية أو غير عقلانية، لكننا عادة ما نفعل ذلك في معرض الغايات أو الأهداف النهائية لهذا الشخص، وهذه الغايات ستكون قائمة على الرغبات. فعلى سبيل المثال، إن معرفة أن هيلين، وهي ممثلة شابة وموهوبة، ترغب في اقتحام عالم السينما يمكن أن تجعلني أقول إنه سيكون تصرفا غير عقلاني منها أن تأكل الكثير من الحلوى لدرجة تصبح معها بدينة، لكن في حال سئلت إذا ما كنت أعتبر رغبة هيلين في أن تصبح نجمة سينمائية هو تصرف عقلاني، فماذا يمكن أن أقول؟ يمكن فقط أن أقول إن هذا النوع من الرغبات أساسي للغاية بحيث لا يمكن أن يكون عقلانيا أو غير عقلاني: إنه مجرد شيء لا يمكن تفسيره عن المرأة. هل من الممكن أن يكون هناك أحكام تتعلق بالعقلانية أو عدم العقلانية لا تستند إلى رغبات أساسية من هذا النوع؟
يقول كانط إن ذلك ممكن. فعندما نتخلص من جميع الرغبات الخاصة، حتى أكثرها أساسية، لا يتبقى لنا سوى عامل العقلانية المجرد والأساسي؛ وهذا العامل المجرد والأساسي هو الشكل الكوني العام للقانون الأخلاقي ذاته. هذا هو مبدأ كانط الشهير «الأمر المطلق» الذي يصيغه كما يلي: «تصرف دائما بحيث يمكن لمبدأ فعلك أن يكون قانونا كونيا للطبيعة.»
إن الخطوة الأكثر إرباكا في هذا هي الانتقال من العقلانية المجردة والأساسية إلى فكرة شيء كوني. يعتقد كانط - ويوافقه هيجل على نحو واضح - أن العقل كوني ضمنيا. فإذا علمنا أن جميع البشر فانون وأن سقراط كان إنسانا، فإذن تخبرنا قاعدة عقلية أن سقراط فان. إن القاعدة العقلية التي تخبرنا بهذا هي قاعدة كونية؛ فهي لا تقتصر على اليونانيين أو الفلاسفة أو حتى سكان كوكب الأرض فقط، بل تمتد لتشمل جميع الكائنات العاقلة. في التفكير العملي - أي التفكير بشأن ما تفعل - كثيرا ما يتم حجب هذا العامل الكوني من خلال حقيقة أننا نبدأ من رغبات خاصة غير كونية على الإطلاق. تأمل هذا النموذج من التفكير العملي: «أريد أن أصبح غنيا، ويمكنني الاحتيال على صاحب العمل في مبلغ مليون دولار دون أن يكتشف أمري؛ لذا ينبغي أن أحتال على صاحب العمل.» هنا يبدأ التفكير من منطلق رغبتي في أن أصبح غنيا. لا يوجد أي شيء كوني بشأن هذه الرغبة. «لا تنخدع بحقيقة أن كثيرا من الناس يرغبون في أن يصبحوا أغنياء؛ الرغبة التي بدأت منها هذا التفكير هي رغبتي أنا، بيتر سينجر، في أن أصبح غنيا. القليل جدا جدا من الناس يشتركون معي في هذه الرغبة.» ونظرا لعدم وجود أي شيء كوني بشأن نقطة انطلاق هذا النموذج من التفكير، فلا يوجد أي شيء كوني بشأن نتيجته، التي لا تنطبق بالتأكيد على جميع الكائنات العاقلة. ومع ذلك، فإن كنا نفكر بشأن ما نفعله دون الانطلاق من أي رغبة خاصة، فليس هناك ما يمنع تفكيرنا من أن ينطبق على جميع الكائنات العاقلة. التفكير العملي المحض، بعيدا عن الرغبات الخاصة، يمكن فقط أن يجسد العامل الكوني في التفكير. ويؤكد كانط أنه هكذا يأخذ الشكل الذي يقتضيه الأمر المطلق.
إذا كان كانط على حق، فشكل التصرف الوحيد الذي لا ينتج عن رغباتنا الفطرية أو الاجتماعية هو التصرف وفقا للأمر المطلق. إذن فالتصرف يكون حرا فقط إذا كان وفقا للأمر المطلق. ونظرا لأن التصرف الحر فقط هو الذي يمكن أن يكون ذا قيمة أخلاقية حقيقية، يجب ألا يقتصر الأمر المطلق على كونه الأمر الأعلى للعقل، بل أن يكون أيضا القانون الأعلى للأخلاق.
هناك نقطة أخيرة ضرورية لإكمال الصورة. إذا كان تصرفي حرا، فلا يمكن أن يكون دافعي للتصرف وفقا للأمر المطلق هو أي رغبة خاصة يمكن أن تكون لدي؛ لذلك لا يمكن أن تكون رغبتي أن أدخل الجنة أو أن أحظى باحترام أصدقائي، ولا رغبتي الخيرية في فعل الخير للآخرين. يجب أن يكون دافعي ببساطة هو التصرف وفقا للقانون الكوني للعقل والأخلاق لذاته، ويجب أن أقوم بواجبي لأنه واجبي. إن الدافع الأعلى للعمل الأخلاقي عند كانط أحيانا ما تلخص في الشعار التالي: «الواجب من أجل الواجب.» إنه ينبع بالتأكيد مما قاله كانط بأننا أحرار عندما نقوم بواجبنا لذاته وليس خلاف ذلك.
وهكذا وصلنا إلى استنتاج أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. سيجد القارئ المعاصر هذا الاستنتاج متناقضا؛ فمصطلح «الواجب» أصبح مرتبطا بطاعة قوانين المؤسسات التقليدية، مثل الجيش والأسرة. وعندما نتحدث عن القيام بواجبنا، كثيرا ما نقصد أننا نقوم بما لا نفضل القيام به، لكن نشعر بأننا مجبرون على القيام به وفقا للقوانين العرفية التي لا نرغب في تحديها. إن «الواجب» بهذا المعنى هو مضاد الحرية.
صفحة غير معروفة