قالت له إن والدها - الذي كانت تناديه بأبي - قد اشترى ذلك المكان فقط من أجل قضاء الصيف فيه، ثم قرر أنه من الممكن أن يقيموا أيضا فيه طوال العام. لقد كان بإمكانه العمل في أي مكان؛ لأنه كان يكسب عيشه من خلال كتابة عمود في صحيفة «تورونتو إيفننج تليجرام»، وكان رجل البريد يأخذ ما يكتب ثم يرسل عن طريق القطار. لقد كتب عن كل الأشياء التي وقعت حولنا، بل إنه حتى ذكر بيل في مقالاته، مشيرا إليها بالقطة بوسي. وقد كان يذكر أيضا أم بيل بين الحين والآخر، لكنه كان يطلق عليها الأميرة كاساماسيما، وهو اسم مستقى من كتاب لم يعد اسمه يعني شيئا على الإطلاق، كما قالت أمها. ربما كانت أمها السبب في بقائهم في هذا المكان طوال العام؛ فلقد أصيبت بوباء الإنفلونزا الرهيب الذي انتشر عام 1918 وتوفي بسببه العديد من الأشخاص، وعندما تعافت أضحت غريبة. لكنها لم تكن بكماء تماما؛ لأنه كان بإمكانها إنتاج بعض الكلمات، لكنها فقدت العديد منها، أو بالأحرى الكلمات هي التي فقدتها. لقد كان عليها أن تتعلم من جديد كيف تطعم نفسها وتذهب إلى الحمام. وبجانب الكلمات كان عليها أيضا أن تتعلم عدم خلع ملابسها في الطقس الحار؛ فأنت لا تريدها أن تكون مجرد شخص هائم يصبح أضحوكة في شوارع المدينة.
كانت بيل تذهب في الشتاء إلى المدرسة. كان اسم المدرسة الأسقف ستراون، وقد اندهشت لأنه لم يسمع بها مطلقا من قبل؛ فراحت توضح له تهجئة الاسم. لقد كانت تلك المدرسة في تورونتو، وكانت مليئة بالفتيات الثريات، لكنها كانت تضم فتيات مثلها ممن كن يتلقين إعانات من الأقارب أو يذكرن في وصايا من أجل الذهاب إلى هناك. قالت إنها علمتها أن تكون متغطرسة بعض الشيء، ولم تساعدها في معرفة ما تفعله من أجل كسب العيش.
لكن الحادث تولى أمر ذلك كله؛ فقد صدم القطار والدها وهو يسير بجانب السكة الحديدية كما كان يحب أن يفعل في الغالب في أمسيات الصيف. وكانت هي وأمها قد خلدتا إلى فراشهما قبل أن يحدث ذلك، وقد اعتقدت بيل أنه حيوان هارب من أحد المزارع عند السكك الحديدية، لكن أمها كانت تئن بنحو فظيع، وبدت وكأنها عرفت الأمر قبل أن يعلمه أحد.
في بعض الأحيان كانت تراسلها إحدى صديقاتها بالمدرسة لتسألها عما يمكن أن تفعله في هذا المكان، ولكنهن لم يعلمن إلا القليل عن الأمر؛ فهناك الحلب والطهي والعناية بأمها، كما كان لديها أيضا الدجاج آنذاك. ولقد تعلمت أن تقطع البطاطس بحيث يكون لكل جزء عين أو برعم، ثم تزرعها وتجمعها الصيف التالي. لم تتعلم القيادة، وعندما اندلعت الحرب باعت عربة أبيها. لقد جعلها المينوناتيون تقتني حصانا لم يعد يصلح لعمل الحقل، وعلمها أحدهم كيف تسوسه وتقوده.
جاءت إحدى صديقاتها القدامى - تدعى روبين - لزيارتها، وكانت تعتقد أن أسلوب الحياة الذي كانت تعيشه مثير للضحك، وكانت تريدها أن تعاود إلى تورونتو، لكن ماذا عن أمها؟ لقد أصبحت أمها أكثر هدوءا الآن، وكانت لا تخلع ملابسها، كما أنها كانت تستمتع أيضا بالاستماع إلى الراديو؛ حفلات الأوبرا في أوقات ما بعد ظهيرة أيام السبت. يمكنها أن تفعل ذلك بالطبع في تورونتو، لكن بيل لم تكن تبغي أن تقتلعها من المكان. قالت روبين إنها تتحدث عن نفسها هي؛ فهي كانت تخشى أن تقتلع نفسها من المكان الذي كانت تعيش فيه، لكنها ذهبت وانضمت إلى ما كانوا يطلقون عليه جيش النساء. •••
كان أول شيء عليه أن يفعله هو أن يجعل بعض الغرف بخلاف المطبخ ملائمة للنوم فيها؛ فالطقس البارد كان يقترب. وكان هناك بعض الفئران التي توجب عليه أن يتخلص منها، بل من بعض الجرذان أيضا، التي كانت تأتي الآن هربا من الطقس البارد. سألها لماذا لم تشتر قطة من قبل، وسمع جزءا من منطقها الغريب في هذا الشأن؛ إذ قالت إن القطة دائما ما ستقتل بعض الأشياء ثم تجلبها إليها لكي تريها إياها، وهو شيء لا تريد أن تفعله. راح ينصت باهتمام لأصوات المصايد، ثم تخلص منها قبل أن تعي ما حدث. ثم حظرها بشأن الأوراق التي تملأ المطبخ، ومشكلة التعرض للحريق، ووافقت على نقلها إذا ما أصبحت الغرفة الأمامية خالية من الرطوبة. وأصبحت تلك مهمته الأساسية؛ فقد اشترى مدفأة، وأصلح الجدران، وأقنعها بأن تمضي القسم الأكبر من الشهر في الصعود وإحضار الأوراق، وإعادة قراءتها وترتيبها ورصها في الأرفف التي صنعها.
أخبرته حينها أن الأوراق تحتوي على كتاب والدها، وكانت تطلق عليه رواية في بعض الأحيان. لم يفكر في أن يسألها عن تلك الرواية، لكنها أخبرته ذات يوم أنها عن شخصين يدعيان ماتيلدا وستيفن، وأنها رواية تاريخية. «هل تتذكر تاريخك؟»
لقد أنهى خمس سنوات من الدراسة الثانوية بدرجات مقبولة، وأداء جيد جدا في علم حساب المثلثات والجغرافيا، لكنه لم يكن يتذكر الكثير من التاريخ. وفي عامه الأخير، على أية حال، كان كل ما يمكنه تذكره هو أنه ذاهب للحرب.
قال: «ليس تماما.» «كنت ستتذكره تماما إن كنت قد ذهبت إلى مدرسة الأسقف ستراون؛ إذ كنت ستجبر حينها على حفظه. إنه التاريخ الإنجليزي، على أية حال.»
قالت إن ستيفن كان بطلا؛ كان رجلا رفيع الأخلاق، شديد الصلاح مقارنة بمن هم في عصره؛ فقد كان من الأشخاص النادرين الذين لا يكرسون حياتهم من أجل ذاتهم، ولا يخرقون عهدا في الوقت الذي كان من المناسب فيه أن تفعل ذلك؛ ونتيجة لذلك لم ينجح في حياته في النهاية.
صفحة غير معروفة