89

إن طاف طائف الإلحاد بفكره لم تطاوعه طبيعته، وإن شك حينا عقله آمن دائما قلبه، ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر والعابد، وكلهم على اختلاف مذاهبهم؛ يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد الكلام.

وأزيد على ذلك أني غضوب حليم، وكل من يراني يصفني بالهدوء والاتزان والحلم والسكينة، ولكني إذا غضبت تعديت طوري وخرجت عن حدي في قولي وتصرفي، فيظهر أن التربية هي التي خففت من حدتي، وضبطت من نفسي، أما مزاجي الطبيعي فعصبي غير هادئ، ولذلك أنفعل للحوادث أكثر مما ينفعل لها صحبي، فقد أكون جليسا لبعض الأصدقاء، فيأتينا خبر موت صديق أو كارثة نزلت بمن نعرف، فألاحظ أني أكثرهم انفعالا وأشدهم تأثرا.

ثم قد ورثت من أبي «حمل الهم» والخوف من العواقب، والحياة قلما تخلو من هم - هم الأولاد ودراستهم، والمعيشة وتكاليفها، والوظائف ومتاعبها ونحو ذلك، والناس حولي تعتريهم هذه الهموم وأكثر منها فلا يأبهون كما آبه، ولا يفزعون منها كما أفزع، ويضحكون وسط همومهم ملء أفواههم ولا أستطيع أن أسير سيرهم، حتى لو عرض علي عشر حوادث تسع منها تستوجب السرور، وواحدة تستوجب الهم لغلبت الواحدة التسع.

شديد الحساسية للكلمة تمسني أو الفعل يجرحني، وقد لا أنام الليل لكلمة نابية سمعتها أو صدرت عني في حق صديق لي، ولكن كما أني شديد التأثر شديد التسامح، أغضب ممن يسيء إلي، ثم سرعان ما يصفو له قلبي ويتسع له صدري.

شديد الخوف على سمعتي الخلقية، فأتألم أشد الألم من كلمة تنشر إذا مست خلقي، ولكني واسع الصدر جدا فيما يمس آرائي وأفكاري. فليس يحزنني نقد كتبي ولا نقد آرائي، بل أرتاح له وأغتبط به إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر، ولم يتعده إلى حدود الخلق.

نعم يسرني كل السرور أن يقدر الناس كتبي وأفكاري ولكن إذا نقدوها في أدب عددت ذلك ضربا من ضروب تقديرها والاهتمام بها.

لدي الشجاعة في قول الحق والتزام الصدق واحتمال الحرمان من مال أو جاه، ولكن ليس لدي الشجاعة في احتمال شوكة تصيب أولادي أو شيء يمس شرفي.

لست كثير الثقة بنفسي، ولا بما يصدر عني، فالكتاب أؤلفه أو المقال أكتبه لا أثق بحكمي عليه بأنه جيد أو رديء حتى يقرأه الناس فيحكموا بجودته أو تفاهته، قد ألمح فيه الجودة أو التفاهة، ولكني لا أثق بحكم نفسي على نفسي حتى يؤيد الناس ظني أو يكذبوه. وأذكر مرة أني أعددت يوما - وأنا مدرس بمدرسة القضاء - محاضرة موضوعها «دقة الملاحظة» وكان من عادتنا أن نعرض ما نكتب على عاطف بك بركات ناظر المدرسة فيجيزه أو لا يجيزه، وقل أن تخلو محاضرة يقرؤها من ملاحظات عليها يقيدها بالقلم الأحمر، فبعد يوم رد إلي المحاضرة، وليست عليها أية إشارة ، فأيقنت أنها لم تعجبه جملة، ولم يرض عن شيء فيها، وأسفت لذلك أسفا شديدا، وجعلت أبرر حكمه عليها، وأقول ماذا تحتوي هذه المحاضرة من أفكار: فكرة كذا تافهة، وفكرة كذا مسبوقة، وفكرة كذا ليست بذلك. وهكذا حتى استسخفت كل ما فيها. ويوم الثلاثاء وهو موعد المحاضرة استدعاني صباحا وسألني: لم لم أعلن عن محاضرتي؟ فقلت: إنك استسخفتها. فقال: من قال لك ذلك؟ قلت كل الدلائل، فلم تحدثني بشأنها. ولم تؤشر عليها وأرسلتها إلي مع الساعي، ونحو ذلك. فقال: إني وجدتها كاملة فليس لي انتقاد عليها فلم أؤشر على شيء فيها، وسألت عنك فقيل لي إنك في الدرس فأرسلتها مع الساعي، والمحاضرة قيمة جدا. فأخذت أستعيد في ذهني نقطها وأقول إن فيها فكرة كذا وهي جيدة وفكرة كذا وهي جديدة، وفكرة كذا وهي قيمة، وألقيتها فاستحسنت فعددتها حسنة.

وهذا عيب في لم أدر كيف نشأ، فخير للإنسان أن يثق بنفسه من غير غلو ويقدر إنتاجه على حقيقته من غير إفراط أو تفريط.

أحب النظام حبا شديدا، فكل شيء في موضعه وكل شيء في وقته، كما أحب البت السريع في الأمور من غير تردد طويل، وأفضل سرعة البت ولو أنتج الخطأ على طول التردد ولو تبعه الصواب.

صفحة غير معروفة