ثم إني أشعر شعورا غريبا بحب الضوء وكراهية الظلام، فأحب النهار وأكره الليل، وأحب من الألفاظ كل ما يدل على الضوء، وأكره منها كل ما يدل على الظلام، وأحب النهار تطلع شمسه، وأكره السحاب يغشى الشمس؛ ومن أجل ذلك وضعت بجانب سريري زرا كلما شعرت بالظلام ضغطت عليه فأضاءت الحجرة.
وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك.
ثم لما فقدت قيم الأشياء التي اعتدتها لا أزال حائرا في وضع أسس جديدة لقيم جديدة ولما أستقر بعد على رأي.
لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيرا بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة.
وأخيرا لم أستفق مما أصابني من تدهور حالتي النفسية إلا بعد سنة تقريبا. أما عيناي فاليمني منهما قد استردت قدرتها كما كانت وهي السليمة التي لم تجر فيها عملية، وأما اليسرى وهي التي أجريت فيها عملية الشبكية، فقد قال الطبيب إن عملية الشبكية قد نجحت، ولكن يمنعها من الإبصار أن بها مرضا آخر وهو الماء الأبيض أو ما يسمونه «الكاتاراكت» وأنه لا يصح عمل عملية فيها إلا بعد أن يتجمد هذا الماء، وتجمده ليس له زمن محدود، وهو يختلف بإختلاف الأشخاص وأن العين ستزيد ظلاما كلما تحرك الماء نحو إنسان العين، وفعلا قد مضى الآن على العملية نحو سنتين وزادت العين ظلاما حتى كادت لا ترى، والطبيب يخبرني أنها قاربت التجمد وبعدها يجري العملية، وقد عرضت عيني على طبيب آخر مشهور فقال إن العملية لم تنجح أو على أحسن تقدير إن الشبكية التأمت أولا ثم انفصلت ولا أمل في العين والعوض على الله.
من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما. وذهني يدرك بالعين ما لا يدرك بالسمع، وأفكاري ترد على قلمي أكثر مما ترد على قلم غيري، وذهني كثير الشرود عندما أسمع وقراءة العين تحصره؛ وفكري بطيء إذا أملى، وكنت إذا أمسكت القلم تواردت علي المعاني وأسرع قلمي في تقييدها.
الفصل الخامس والثلاثون
في سنة 1948 قرر مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول منحي الدكتوراه الفخرية فلقبت: الدكتور أحمد أمين، ومنحت جائزة فؤاد الأول، وهي إحدى الجوائز التي تقدر بألف جنيه مصري وتمنح لمن ينتج أحسن عمل أو إنتاج في الآداب والعلوم والقانون؛ وقد أقيم حفل كالمعتاد في يوم 28 فبراير 1948 في قاعة الاحتفالات الكبرى للجامعة سلمت فيها الجائزة، وكان نص البراءة الملكية ما يأتي «من فاروق ملك مصر بعناية الله تعالى إلى حضرة صاحب العزة الدكتور أحمد أمين إبراهيم بك العضو بمجمع فؤاد الأول للغة العربية: بناء على ما أقرته اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وفاروق الأول من استحقاقكم جائزة فؤاد الأول للآداب عن سنة 1948 لما امتاز به مؤلفكم «ظهر الإسلام» من دقة البحث، قد أمرنا بإصدار براءتنا الملكية هذه من ديواننا بمنحكم تلك الجائزة. وفقكم الله لخدمة العلم والوطن؛ تحريرا بقصر القبة الملكي بالقاهرة في اليوم التاسع عشر من شهر جمادى الآخرة لسنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين من هجرة خاتم المرسلين وفي السنة الثانية عشرة من حكمنا» كما سلمت في اليوم نفسه براءة الدكتوراه الفخرية.
1
وكان الطبيعي أن أبتهج بهاتين المنحتين العظيمتين اللتين منحتا لي في يوم واحد تتويجا لجهودي في الجامعة وجهودي في الإنتاج الأدبي، ولكن جاءتا عقب العملية الجراحية في عيني وما أصابني من ذلك في نفسي، فلم يهتز لهما قلبي كما ينبغي ولا ابتهجت لهما نفسي كما يجب، يضاف إلى ذلك حالتي النفسية وهي أن تستجيب لداعي الحزن، ولو صغيرا، ولا تستجيب لداعي السرور، ولو كبيرا. إلا بقدر.
صفحة غير معروفة