كان جو الآستانة في الأربعين يوما جميلا، فلم نشعر فيه بحر القاهرة، بل كنا أحيانا نشعر بالبرودة، ولكن حدثنا بعضهم أن الحر في هذه السنة كان خفيفا أقل من المعتاد، وفي بعض السنين يكون شديدا لا يطاق في بعض الأيام.
وقد أفادتني هذه الرحلة اتساعا في أفقي، فأصبحت أنظر إلى مصر وحوادثها وشئونها من عل وكأني في طيارة، وغلبتني وأنا في الآستانة العاطفة الدينية، لا من ناحية كثرة الصلاة ونحوها، ولكن من ناحية الشعور القلبي.
أحسست عند مقارنتي لرفقائي في السفر أنني أكثرهم تحفظا وأقلهم مرحا وأشدهم حنينا إلى أهلي ووطني، واعتزمت أن أنصف أهلي وولدي عند عودتي فأكون معهم ألطف وأعطف وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحا.
فكرت أن أبحث عند عودتي مشروعا مفيدا وهو إنشاء مطبعة أنشر فيها خير الكتب القيمة التي عثرت عليها في الآستانة فيكون عملا مربحا ماديا وأدبيا.
قلت في نفسي: إن الأربعين يوما التي قضيتها في الآستانة موضوع لرواية جيدة بل روايات، ففيها المناظر وفيها الأشخاص، وفيها الأحداث ولا ينقصها شيء إلا المرأة والتحرير الروائي.
لاحظت كثرة الشيب في رأسي، فبدأ شعوري بكبر سني، وزاد هذا الشعور ما كان يبدو على بعض الشبان من تقديمي أمامهم في السير وإخلاء أماكنهم ليجلسوني، وكان كل هذا إكراما لاذعا.
لتمنيت أن تنقلب السفينة طائرة.
وختمت هذه الرحلة بمأساة سماها أستاذنا علي بك فوزي لما علم بها «آية الكرسي»؛ ذلك أنه قبل وصول الباخرة إلى الإسكندرية بيوم صعدت فوق ظهرها وأردت الجلوس على كرسي من قماش من النوع المعروف الذي يقفل ويفتح، وكان كرسيا قديما فتحته وأخذت أجلس عليه مستندا بيدي على خشبتيه الجانبيتين، فانفلتت خشبته الخلفية ووقعت إصبعي الخنصر من اليد اليمني بين الخشبتين فانقطع طرفها العلوي وتدلت لحمته وسال دمه، وذهبت إلى طبيب الباخرة فأعاد اللحمة المدلاة إلى مكانها وربطها ربطا محكما. واستثارت الحادثة عطف كل من كان في الباخرة. ولما حضرت إلى مصر ذهبت إلى الجراح فأمر بالكشف بالأشعة على عظمة الإصبع فوجدت والحمد لله سليمة، ولم يلتئم الجرح إلا بعد علاج طويل وقد ترك أثرا في إصبعي بينا.
كتب على السفينة (الروضة) في 16 يوليو سنة 1928.
الفصل السادس والعشرون
صفحة غير معروفة