هيأت لي الجامعة فرصة جميلة لرحلات خارج القطر، وقد كاد ينقضي شبابي ولم أبرح القاهرة إلا حين عينت مدرسا بطنطا والإسكندرية، وحين عينت قاضيا في الواحات الخارجة، أما الرحلة خارج مصر فلم تخطر لي على بال، وما كننت أظن أن الزمن سيسمح بها. وقد هيئت لي مرة فرصة السفر إلى باريس، وذلك أن أحد باشوات القاهرة وأغنيائها أراد أن يرسل ابنه إلى باريس ليتعلم هناك، وأراد ألا ينسى ابنه اللغة العربية، فعرض علي أن أصحب ابنه وأقيم معه وأعلمه اللغة العربية وأدرس أنا اللغة الفرنسية فالقانون، وأعجبتني الفكرة ولكنها زهرة محفوفة بشوك، فمن الثقيل على نفسي جدا أن أكون موظفا عند باشا ونفقتي عليه، وابنه سيدي يستدعيني للدرس إذا شاء ويهجرني إذا شاء. ومع ذلك استشرت عاطف بك في الأمر ففضل الرفض فرفضت، واختير غيري لهذا العمل فدرس القانون ورجع محاميا في المحكمة الشرعية والمختلطة، ولو قبلت لتغير وجه حياتي.
على كل حال لم تتح لي فرصة السفر خارج مصر إلا سنة 1928، وأنا مدرس بكلية الآداب، ففي يوم استدعاني أستاذي لطفي السيد مدير الجامعة، وقال: إن البرنس يوسف كمال يود البحث في مكتبات الآستانة عن كتب جغرافية قديمة وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا، وأنه طلب مني أن أختار له اثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي - فترددت بعض الشيء وعاودتني فكرة التوظف عند الباشا، ولكن لطفي بك هون على الأمر، إذ أخبرني أنه قال للبرنس إنه يرحب بالفكرة ولكن يرجوه ألا يجرح شعور الأستاذين بإعطائهما أجرا على عملهما العلمي وإنما أجرة السفر وما إليها - فقبلت.
وشجعني على القبول أني منذ الصغر أسمع عن إستانبول وعظمتها وأبهتها. ولها صورة عظيمة فخمة في نفسي، فكل حين يذهب الخديو عباس إلى إستانبول ويعود من إستانبول، وأعيان مصر يفخرون بسفرهم إلى إستانبول، وشوقي في شعره يشيد بذكرها. ناهيك عن الباب العالي والقصر الشاهاني والبسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدز ونحو ذلك - كل هذا شوقني إلى رؤيتها.
أضف إلى ذلك ما وصل إلينا حديثا من ثورة مصطفى كمال وقلبه النظام الاجتماعي رأسا على عقب وما كان له من أثر، فكنت أسمع ذلك وأشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته.
هذا إلى ما أعتقده في الرحلات من فوائد، فأنا أرى أن الشيء لا تمكن معرفته معرفة حقة إلا بالمقارنة، فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا.. فما دمت في مصر ولم أر غيرها لم أستطع الحكم الصحيح عليه إلا عن طريق الكتب، وهي أقل جدوى من المشاهدة.
وما أكثر من رأيت من الشبان يركبون البحر ويعودون إلينا ممتلئين إعجابا بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملئون أفواههم بالكلام عما شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، فإلى أي حد صدقت نظرتهم وإلى أي حد صح حكمهم؟ هذا ما لا أستطيعه إلا إن رأيت ما رأوا؛ وكم قرأت من كتب في الرحلات، ولكن الرحلة إذا تحولت إلى كتاب ذهبت حياتها وقل خيرها وأصبحت عقلا لا قلبا، ومعلومات لا إحساسات والرحلة الحقة ما جددت النفس وأحيت القلب.
وقد مكثت في رحلتي هذه إلى الآستانة أربعين يوما. أخذنا الباخرة «رشيد» يوم السبت 2 يونيه (حزيران) سنة 1928، وقد اعتزمت من يوم أن سافرت أن أدون لي مذكرات يومية، فكنت أسجل قبل أن أنام ما فعلته كل يوم مؤرخا بتاريخه، ولا أطيل على القارئ بذكر هذه اليوميات إلا على سبيل المثال.
لم أر البحر قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم أرها إلا اليوم - رأيت البحر عظيما جميلا أنيسا في النهار، ورأيته جليلا مهيبا موحشا في الليل، ورأيتني أشعر نحوه بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأني عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما أشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما أشعر به نحو نفسي أمام هذه المظاهر من ضعة.
كأن البحر استدرجنا، فهو في اليومين الأولين هادئ وديع، فلما ألفناه كشر لنا عن أنيابه وهاج في اليوم الثالث فأصابني دوار وما يتبع الدوار. وأطلت الرقاد في سريري خاضعا مستسلما، وفي اليوم الثالث نزلنا أزمير وأخذنا سيارة تجولنا في شوارعها مع بعض ركاب السفينة، وفي اليوم الرابع وصلنا إلى الآستانة.
تجولنا في أنحائها، وسكنا في بيت من بيوتها، وصدمت في أول الأمر عند رؤيتها فلم أجد لها من الجلال والروعة ما سبق أن رسمه الخيال، إنما أيقنت بجمالها وروعتها لما شاهدت ضواحيها، وركبت البحر إلى أطرافها. وأعجبني في الأتراك خلقان لطيفان: نظافتهم وهدوءهم. فأما النظافة فقد تدخل بيت الفقير الذي يعيش أكثر أيامه على البقول الجافة فتراه قد فرش فرشا بسيطا ولكنه نظيف، وقد تفرش الحجرة بالحصير. ولكن لا يسمح التركي لنفسه ولا لضيفه أن يدوس بنعله. وقد ركبنا القطارات والترام وأكلنا في مطاعم المدينة على اختلاف أنواعها من الدرجة الأولى إلى الرابعة، وجلسنا في مقاهي الصناع والحمالين فما وجدنا في كل ذلك إلا نظافة يحمدون عليها. وأما هدوؤهم فقد أمضينا أربعين يوما لم نجد فيها نزاعا في شارع أو خصاما في ترام. وتدخل المقهى مملوءا بالناس، فإذا أغمضت عينيك حسبت أن ليس به أحد، فهم في الحق كما يقولون في هذين الأمرين إنجليز الشرق. ولعل ما لفت نظري إلى هذين الخلقين سوؤهم في مصر، فعنايتنا بالنظافة ضعيفة، وإذا رتبت الأمم في النظافة لم نجد أنفسنا في أعلى القائمة ولا أوسطها، ويفوقنا فيها من الشرقيين اللبنانيون والسوريون وكذلك الشأن في الهدوء، فبلدنا حرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى في البيت.
صفحة غير معروفة