الفصل الثالث
كانت أول مدرسة تعلمت فيها أهم دروسي في الحياة بيتي، وقد بنى أبي - بعد أن تحسنت حاله - بيتا مستقلا في الحارة التي يسكنها هو وأخوه منذ هجرتهما. يتكون من دورين غير الأرضي، ففي الدور الأرضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان البساطة والنظافة. فأثاث أكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة، وإذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من أركانها حشية ولحافا ومخدة، تطوى في الصباح وتبسط في المساء. فلم نكن نستخدم الأسرة، وأدوات المطبخ في غاية السذاجة. وهكذا، ولو أردنا أن ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الأثاث؛ أما أكثر ما في البيت وأثمنه وما يشغل أكبر حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب، وحجرة أبي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الأول ملئت كذلك بالكتب.
وكان أبي مولعا بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه.. والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب والنحو والصرف والبلاغة، وإذا كان الكتاب مطبوعا طبعتين: طبعة أميرية وطبعة أهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة أميرية، وقد مكنه عمله مصححا في المطبعة الأميرية أن يقتني كثيرا مما طبع فيها وكانت هذه المكتبة أكبر متعة لي حين استطعت الاستفادة منها، وقد احتفظت بخيرها نواة لمكتبتي التي أعتز بها وأمضي الساعات فيها كل يوم إلى الآن.
في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحا من أول أكتوبر سنة 1886، وكأن هذا التاريخ كان إرهاصا بأني سأكون مدرسا فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله أن أكون كذلك. فكنت مدرسا في مدرسة ابتدائية، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية، وكنت مدرسا لبنين وبنات، ومشايخ وأفندية. وكنت رابع ولد ولد، ولم يكن أبي يحب كثرة الأولاد شعورا منه بالمسئولية، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة أختي أبشع وفاة.
فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يوما تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حمل في بطن أمي، فتغذيت دما حزينا ورضعت بعد ولادتي لبنا حزينا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزينا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم.
وكان من محاسن أسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت، فلا حماة ولا أقارب إلا أن يزوروا لماما.
وكان بيتنا محكوما بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوفا من ضربه، ومالية الأسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل، يشعر شعورا قويا بواجبه نحو تعليم أولاده، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم، سواء في ذلك أبناؤه وبناته، ويتعب في ذلك نفسه تعبا لا حد له، حتى لقد يكون مريضا فلا يأبه بمرضه، ويتكئ على نفسه ليلقي علينا درسه. أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت إليه. ولا يرى أنه واجب عليه. يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته؛ وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي، يأكل وحده ويتعبد وحده، وقلما يلقانا إلا ليقرئنا. أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا.
وقد كان لنا جدة - هي أم أمنا - طيبة القلب شديدة التدين؛ يضيء وجهها نورا، تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم، وهي قصص مفرحة أحيانا مرعبة أحيانا، منها ما يدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن، ومنها حول العفاريت وشيطنتها، والملوك والعظماء وذلهم أمام القدر «إلخ»، وتتخلل هذه القصص الأمثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز فيها مغزى القصة. وأحيانا كان أخي الكبير يقرأ لنا في ألف ليلة وليلة، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها، وأحيانا يزل لسانه فيقرؤها فيضحك بعض من حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة.
ولكن كان بيتنا - على الجملة - جدا لا هزل فيه، متحفظا ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته.
صفحة غير معروفة