ففولتير إذ ذهب إلى أن إنجلترا في أول القرن الثامن عشر فتن بهذه الحرية البريطانية، وعاد إلى بلاده وقد كتب رسائله الفلسفية التي كان لها أبعد الأثر وأعمقه في تكوين الحياة الفكرية في فرنسا في القرن الثامن عشر.
وبيرون بثورته هذه المعروفة، ثورة الأديب على الجماعة، في حياته الفنية والعملية استطاع أن يهز النفوس الفرنسية هزا عنيفا، وأن يوجد لنفسه مقلدين له مفتونين به بين كبار الشعراء والكتاب، هنالك شيء آخر حبب الثقافة الإنجليزية أو فرض الثقافة الإنجليزية على أوروبا منذ القرن السابع عشر، وقد نشأ عن هذه الحرية، وهو أن هذا الذي وصل إليه العقل البريطاني من التحرر أمام الفلسفة وأصولها القديمة قد جعل التجربة أصلا من أصول العلم.
فالعلم الإنجليزي كالفلسفة الإنجليزية يمتاز بالاعتماد على التجربة أكثر من الاعتماد على أي شيء آخر، وقد رأيتم كيف وصل بيكون إلى الاعتراف بحق العقل في النقد والتمحيص والتحليل والاختبار، ولست في حاجة إلى أن أعرض عليكم جهود «نيوتن» التي أقامت بناء العلم التجريبي.
فالفلسفة الإنجليزية والعلم الإنجليزي هما اللذان أهديا إلى أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر بنوع خاص هذا العقل المجرب الذي لا يفنى في الاستنتاج والاستنباط الفلسفي الخالص، وإنما يستقري ويستقصي ويمتحن الظواهر ويستخرج قوانين العلم من الحقائق الخارجية لا من عند نفسه، ولست في حاجة إلى أن أعيد ما قيل ألف مرة ومرة من أن حضارة أوروبا الحديثة إن امتازت بشيء فأخص ما تمتاز به هو أنها تقوم على العلم التجريبي.
ويخيل إلي أيها السادة أن خير ما يمكن أن نشخص به الثقافة الإنجليزية هو أنها قد بذلت منذ عصر النهضة جهودا متصلة في سبيل الحرية فوفقت إليها، ثم لم تستأثر بها وإنما أذاعتها في فرنسا أولا ثم في أوروبا بعد ذلك، وعن هذه الحرية التي كسبتها الثقافة الإنجليزية لنفسها وأشاعتها في الثقافات الأوروبية الأخرى نشأ ما امتلأت به الحياة الأوروبية الحديثة من ألوان الصراع والاضطراب وما امتازت به الحياة الأوروبية الحديثة من هذه النظم الديمقراطية التي رفعت للأفراد والجماعات أعلام الحرية والحق والعدل، وما أظن أن الإنجليز يطمحون إلى شرف أرقى من هذا الشرف.
مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم العلوم
لحضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم
يرجع تاريخ الحركة العلمية في الجزر البريطانية إلى عصر النهضة في البلاد الأوروبية، ونحن نتصور عصر النهضة على أنه الحد الفاصل بين القرون الوسطى وبين التاريخ الحديث، بين العصور المظلمة وبين نور المدنية الحديثة، كما أن لفظ النهضة في لغتنا يدل على الحركة بعد السكون والنشاط بعد الخمول، وفي اللغات الأوروبية تستخدم كلمة
renaissance
التي معناها الحرفي الولادة من جديد، والتي هي نوع من البعث أو النشور، كما استخدمت أيضا العبارة
صفحة غير معروفة