هذا الفرق الهائل بين طبيعة هذين الشعبين كان له آثار بعيدة جدا فيما نتج لهذين الشعبين من الثقافة، وكان له أثر أبعد من الآداب أو من الآثار الأدبية، وكان له أثر في الحياة العقلية بوجه عام، وإذا أردنا أن نشخص العقل الإنجليزي أثناء القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، فقد نستطيع أن نشخصه بأنه عقل متمرد مندفع إلى الثورة على المألوف بغير تحفظ ولا احتياط.
ومن هنا نستطيع إذا تتبعنا فكرة الحرية في العصر الحديث أن نقول: إن الحرية في العصر الحديث الأوروبي ربما كانت نتيجة للحياة العقلية الإنجليزية أكثر من نتيجة أي حياة عقلية أخرى، ومن أروع الأشياء أن نتتبع تطور فكرة الحرية عند الإنجليز، ولا أريد الحرية السياسية التي كثر فيها القول، ولا أريد ما تستتبعه الحرية السياسية من النظم البرلمانية أو الديمقراطية التي عرف بها الإنجليز، إنما أريد الحياة العقلية الخالصة، وبالطبع يعرف الناس عن إنجلترا أنها موطن النظام البرلماني، وموطن الحرية، وموطن الديمقراطية ، ولكن ربما كان علمهم بهذه النظم البرلمانية، وبما لإنجلترا من تفوق في هذه الناحية، ربما كان علمهم محتاجا إلى أن تكون أكثر تعمقا، وهذا التعمق يتحقق إذا عرفنا مقدار تأثر الإنجليز بفكرة الحرية في حياتهم العقلية، أولا عندما تظهر الثورة على الفلسفة القديمة وعلى فلسفة أرسطوطاليس وعلى النظام العقلي، كما تركه لنا اليونان والرومان والعرب، وهي تظهر عند الإنجليز بفضل «بيكون» الذي يستعرض حياة العقل ويستعرض الفلسفة، ويريد أن يحرر العقل أمام العقل نفسه، ويريد أن يخرج العقل من هذا التأثر الذي طال عليه العهد بقواعد «أرسطوطاليس» وأصوله ونظمه الدقيقة التي خضعت لها القرون الوسطى خضوعا تاما، يريد أن يرد على العقل هذه الحرية التي تمكنه من نقد هذه الفلسفة التي كان الناس مؤمنين بها كما يؤمنون بالدين، يريد أن ينقد هذه الأصول الفلسفية نقدا حرا، وهو من أجل هذا يصل إلى ما تعرفون من وجوب تحرير العقل من الخضوع لهذه الأصنام التي نشأت عن تعدد القواعد والأصول الفلسفية التي تركها أرسطوطاليس بنوع خاص.
فالعقل إذن يجب ألا يتأثر بهذه القواعد التقليدية، ويجب أن يأخذ هذه القواعد واحدة واحدة، فينقدها نقدا حرا صريحا، ويجب ألا يستبقى من هذه القواعد إلا ما يثبت لهذا النقد، فما يثبت له يجب أن يبقى، وما لم يثبت له يجب العدول عنه في حرية وصراحة وفي غير تحفظ ولا احتياط.
ولا يكاد بيكون يصل إلى ما يريد من تحرير العقل مما فرضته القواعد الفلسفية وقواعد أرسطوطاليس بنوع خاص حتى تظهر فكرة أخرى عند الإنجليز تتصل بالحرية العقلية، ولكنها تتجاوز الناحية الفلسفية التي رأيناها إلى ناحية أخرى، فتحرير العقل من القواعد التقليدية يمكنه من أن يفكر تفكيرا صحيحا مستقيما منتجا، وهذا حسن، ولكن ما فائدة الحرية الفكرية إذا لم تنته إلى حرية التعبير؟ فحرية العقل أمام الدولة إذن يجب أن تتحقق من طريقين أو يجب أن يكون تحقيقها مؤلفا من مرحلتين:
الأولى:
حرية العقل في التفكير كما يحب هو لا كما يحب غيره.
والثانية:
حرية العقل في أن يعلن تفكيره دون أن يتعرض لخطر ما، دون أن يتعرض للرقابة، ودون أن يتعرض للمحاكمة من حيث إنه قد فكر وأعلن رأيه، ودون أن يتعرض للاضطهاد.
وقد كان الشاعر العظيم ملتون بطلا من أبطال المطالبة بهذا النوع من حرية العقل أمام السلطان، فبعد أن عني الفلاسفة وفرغوا من تحديد حرية العقل أمام العقل جاهد ملتون في تحقيق هذه الحرية جهادا هائلا، وأنفق حياته كلها تقريبا في هذا الجهاد محتملا كل ما كان يمكن أن يحتمل من مقاومة الخصوم ومقاومة السلطان، جاهرا في ذلك بكل ما كان يمكن أن يجاهر به من الأقوال التي تصل بالحرية إلى أبعد مدى.
وملتون هو الذي قال في رجال الدين إنهم قوم لم يستطيعوا أن يرفعوا أنفسهم إلى السماء، فأنزلوا الله إلى الأرض ليكون معهم، وملتون الذي استطاع أن يواجه السياسة بهذه الفكرة الرائعة، فكرة أن الكتاب أو الفصل الذي يكتبه الكاتب وكذلك الأثر الأدبي إنما هو صورة حية من صاحبه، فكل مساس بهذا الأثر الأدبي إنما هو مساس بمؤلفه، فإذا كانت التقاليد الدينية والقوانين تمنع أحد الناس من أن يؤذي الناس في أنفسهم بغير حق، فيجب أن تمنع القوانين الدولة من أن تقتل الكتاب؛ لأن قتل الكتاب ليس أقل خطرا من قتل المؤلف؛ ذلك لأن مؤلف الكتاب شخص محدود الأجل محدود الحياة، يوجد وقتا ما ثم ينتهي بالموت، فحياته محدودة وآثاره محدودة بحياته، على حين أن الكتاب أجله أطول وأوسع من أجل مؤلفه، وهو الوسيلة التي يتمكن بها العقل من أن يكون طويل التأثير عميقه وبعيده، فالكتاب لا يؤثر في البيئة التي يؤلف فيها وقتا معينا، ولكنه يؤثر في هذه البيئة، ثم يمضي بتأثيره إلى بيئة أخرى بعده، وربما يكون بينه وبين مؤلفه قرون وعصور.
صفحة غير معروفة