ظللت لفترة - ستة أشهر تقريبا على ما أعتقد - أتردد على مغسلة جوبيلي للتنظيف الجاف بداخلي ارتجافة حماسة ضئيلة وأمل أن أراه، لكنه لم يكن يتواجد قط في المحل الأمامي، وإنما كان من يظل هناك هو صاحب المحل أو زوجته - وكلاهما صغير الجسد يبدو عليه الإرهاق ويميل لون بشرته إلى الزرقة وكأنما تركت سوائل التنظيف الجاف بقعا عليه أو وجدت طريقها إلى دمائه.
أما الآنسة فاريس فقد غرقت في نهر واواناش، عندما كنت أنا في المدرسة الثانوية؛ أي بعد ثلاث أو أربع سنوات من أوبريت «زمار هاملين»، لكنني عندما سمعت الخبر شعرت كما لو أن الآنسة فاريس كانت تعيش في زمن سحيق كانت به المشاعر ساذجة وبدائية والمفاهيم خاطئة. كنت أشعر أنها مسجونة في ذلك الزمن، وشعرت بالدهشة لأنها تمكنت من تحرير نفسها لتقترف هذا الفعل، إذا كان هذا الفعل من صنع يديها.
من الممكن - لكن ليس من المرجح على الإطلاق - أن تكون الآنسة فاريس قد ذهبت تتمشى على ضفة النهر شمالي المدينة قرب الجسر الإسمنتي، وأن تكون قد زلت فسقطت في الماء ولم تستطع إنقاذ نفسها. كما أنه ليس من المستبعد - كما أشارت جريدة «هيرالد أدفانس» لمدينة جوبيلي - أن تكون قد اختطفت من منزلها من قبل شخص أو أشخاص مجهولين وأجبرت على أن تلقي بنفسها في النهر؛ فقد تركت منزلها مساء دون أن تغلق الباب وكان النور مضاء. صدق بعض الأشخاص المتحمسين لأفكار الجرائم الصامتة الغريبة التي تحدث في الليل قصة جريمة القتل تلك. أما غيرهم فرأوا أنها حادثة، ربما بدافع طيبتهم أو خوفهم. كان هذان هما الاحتمالين اللذين يخضعان للجدل والمناقشة. أما من رأوا أنها انتحار - وقد أصبح معظم الناس في نهاية المطاف كذلك - فلم يرغبوا في الحديث عن الموضوع كثيرا، ولماذا قد يفعلون هذا؟ فلم يكن هناك ما يقال؛ فقد كان الأمر برمته لغزا لا تفسير له ولا أمل لتفسيره يقف - بكل غطرسة وتحد - واضحا وضوح السماء الزرقاء الصافية. فليس ثمة تجل للحقائق محتمل هنا.
صورة الآنسة فاريس وهي تتزلج مرتدية زي التزلج المخملي معتمرة قبعتها الأنيقة - التي تميزها دائما عن الآخرين - المصنوعة من الفراء وهي تتمايل بين المتزلجين، وصورة الآنسة فاريس والجميع يصيحون بها: «كون بريو»، ثم صورة الآنسة فاريس وهي تدهن الوجوه في قاعات المجلس، والآن صورة الآنسة فاريس وهي طافية على الماء في نهر واواناش ووجهها لأسفل - دون أي بادرة للمقاومة - قبل أن تكتشف جثتها بستة أيام؛ برغم أنه لا توجد طريقة منطقية لوضع تلك الصور بجانب بعضها - وإذا كانت الصورة الأخيرة حقيقية، أليس من الضروري أن تغير الصور الأخرى؟ - فسيتعين أن تظل تلك الصور جنبا إلى جنب الآن. «زمار هاملين»، و«أميرة الغجر»، و«التاج المسروق»، و«الفارس العربي»، و«راقصو كيري»، و«ابنة الحطاب».
من مرقدها في الماء، أرسلت الآنسة فاريس تلك الأوبريتات كفقاقيع تكونت بمجهود مضن ومرهق، ثم تحررت عرضا حتى تتلاشى وتتلاشى، لكنها ظلت تحبس بداخلها للأبد نفوسنا الطفولية التي تحولت، وحبها غير المتبادل الذي لا ينهزم.
أما السيد بويس، فكان قد ترك جوبيلي بالفعل؛ حيث إنه - كما يقول الناس - لم يشعر قط بالارتياح فيها وكأنها وطنه، ووجد وظيفة عازف للأرجن في كنيسة ومدرس للموسيقى في مدينة لندن، والتي أجد نفسي مضطرة لأفسر أنها ليست مدينة لندن الحقيقية، وإنما مدينة متوسطة المساحة غربي أونتاريو. وتردد بعد ذلك أنه استطاع أن يندمج هناك في تلك المدينة جيدا؛ حيث وجد فيها أناسا يشبهونه.
حياة الصبايا والنساء
كانت الجوانب الجليدية على طول الشارع الرئيسي شديدة الارتفاع، حتى إنه جرى حفر طريق فرعي في واحد منها بين الشارع والرصيف أمام مكتب البريد. التقطت صورة لهذا المنظر ونشرت في جريدة «هيرالد أدفانس»، التي تصدر في مدينة جوبيلي، كي يقصها الناس في جوبيلي ويرسلوها إلى أقاربهم ومعارفهم، الذين يعيشون في طقس أقل حدة في إنجلترا أو أستراليا أو تورونتو. وكان برج الساعة المبني من القرميد الأحمر يبرز فوق الجليد، ووقفت سيدتان في الطريق الفرعي لتثبتا أنه حقيقي وأن الأمر ليس خدعة. كانت هاتان السيدتان تعملان في مكتب البريد، وكانتا ترتديان معطفيهما دون أن تغلقا أزرارهما، إحداهما كانت فيرن دوجرتي، مستأجرة لدى أمي.
قصت أمي تلك الصورة من الجريدة؛ لأن فيرن بها، وأيضا لأنها قالت إنني يجب أن أحتفظ بها لأريها لأطفالي.
وقالت: «إنهم لن يروا شيئا كهذا قط في أيامهم؛ ففي ذلك الوقت سيجمع الجليد في ماكينات وسوف ... يتبدد، أو سيعيش الناس تحت قباب شفافة يمكن التحكم في درجة حرارتها، ولن تعود هناك فصول مناخية.»
صفحة غير معروفة