أما طائفة فمالت به إلى السياسة، وقال قائلهم: هذا رجل ليس منا، يريد أن ينكر فضل مصر عليه وعلى آله، فيتهمها بالعقم وركود الذهن وجمود العاطفة فيجردها من الشعراء ... ومضى في دعواه. ذلك سلامة موسى! ...
وأما ثانية فقالت: وهذا قول يعنينا به نحن الشعراء المصريين؛ ليجردنا من الشاعرية في قاعدة عامة لا تستثني أحدا إلا من انحدر إلى مصر وفي أعراقه دم غريب ... ومضت هذه الطائفة تنقض دعواه وتسفه رأيه بما تسوق من الأمثال وتذكر من أسامي الشعراء المصريين.
وانتضى عبد الله عفيفي قلمه ليكتب في جريدة «البلاغ» مقالات أسبوعية بعنوان «مصر الشاعرة»، يذكر فيها من شعراء مصر في مختلف الأجيال منذ كانت مصر العربية، ما يراه ردا على دعوى الرافعي، ومضى في هذه المقالات بضعة أسابيع يضرب على وتر واحد، ثم مل هذه النغمة فراح يتصيد موضوعات أخرى من مشاهداته وآرائه في الناس والحياة، ولكن عنوان «مصر الشاعرة» ظل على رأس هذه المقالات يبحث عن موضوعه ... فكان حسبه في هذه المقالات أن أنشأ هذا العنوان في الرد على الرافعي! ... •••
وقد ظل الرافعي إلى آخر عمره يذكر أيامه وهو شاعر الملك، ثم ما كان بينه وبين الإبراشي وبين عبد الله عفيفي، وما كانت تظهر للأستاذ عفيفي في الصحف مدحة ملكية، في موسم من المواسم أو عيد من الأعياد، حتى يتناولها الرافعي فيقرأها إلى آخرها، ثم يلتفت إلى جليسه فيقول: «ماذا رأيت فيها من شعر ومن معنى جديد؟» ثم يسترسل فيما تعود من المزاح والتندر.
وقد ذكرت فيما قدمت من هذه الفصول أن الرافعي كان يسمي كل جميلة من النساء «شاعرة» فمنهن كالمتنبي، ومنهن كالبحتري، ومنهن بشار بن برد، ومنهن عبد الله عفيفي.
فهذه الأخيرة عنده هي ذلك النوع «البلدي» من نساء الطبقة الثالثة، التي تبدو ملفوفة «محبوكة الأطراف» في ملاءتها السوداء، غضة بضة، تستهويك بجمال الجسم دون جمال المعنى، وفيها أنوثة اللحم والدم، ولكنها جامدة العاطفة عقيم الخيال ...
ومعذرة إلى الأستاذ عبد الله عفيفي! فإنما أنا راوية أكتب للتاريخ، وما شهدت إلا بما علمت وعلي تبعة الرواية وعلى غيري تبعة الرأي، وللأستاذ عفيفي في نفسي على الرغم من ذلك كل إجلال واحترام! •••
حاشية: كتبت هذا للطبعة الأولى من هذا الكتاب، فلم تكد تلك الطبعة تظهر لقرائها حتى كتب إلي المرحوم عبد الله عفيفي رسالة عليها الشعار الملكي يطلب إلي فيها أن أحدد زمانا ومكانا للقائه، فلم يغب عني أنها دعوة للحديث في موضوع يتصل بما نشرت عنه في هذا الكتاب، فقررت أن يكون جوابي على هذه الدعوة أن أذهب إليه، تكرمة له، وكنت يومئذ من العمل في زحمة، فمضت أيام قبل أن أذهب إليه، واستبطأ المرحوم عبد الله عفيفي جوابي فتحدث إلى بعض أساتذتي يسأله أن يكون رسولا إلي، ثم استبطأه فبعث رسولا ثانيا ... وحسب الرسولان بما لأحدهما علي من حق الأستاذية في المدرسة وما للآخر من حق الرياسة في عملي بالحكومة وقتذاك، أنهما يملكان أن يقوداني بزمام إلى حيث ألقى السيد عبد الله عفيفي وأعتذر إليه، ولكني رددتهما ردا جميلا، ولكن المرحوم عبد الله عفيفي - فيما يبدو لي - كان حريصا على أن يلقاني ليتحدث إلي حديثا ما، فبعث إلي رسولا ثالثا مترفقا في حديثه، فلبيت الدعوة ولقيت الرجل في منزل الأستاذ عبد اللطيف المغربي بالعباسية، وجلست إليه أستمع إلى ما يقول ...
قال: «لقد ذكرتني بما لا ينبغي في كتابك، وكان حقا عليك أن تسألني قبل أن تكتب عني لتعرف وجه الحق فيما رويت!»
قلت: «إنني فيما كتبت لم أكن صاحب رأي، وإنما أسندت ما كتبته إلى راويه!»
صفحة غير معروفة