قال الرافعي: «وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرت عنه، فلما كان الغد جاءني النبأ ينعى إلي زين الشباب المرحوم أمين الرافعي بك، فآدني الهم وثقل علي، وضاقت نفسي بما فيها، وتوزعتني الوساوس والآلام، وما نسيت وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن علي موعدا بعد ساعات، فما هيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عدوا إلى القصر؛ وفاء بالوعد الذي اتعدت، وجعلت من وراء ظهري ما علي من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق علي، لقد كان الذي مات زعيما من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلت الوفاء بالوعد فوق ما علي من الواجب للزعيم الذي مات، وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي ...!»
قال: «ووقفت بالباب أنتظر أن يؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإن في دمي جمرات تتلهب، ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذلك أطالع وجوه الداخلين والخارجين في غرفة الباشا ولا يؤذن لي ...!»
قال الرافعي: «وهاجت كبريائي وثارت حماقتي ... لا أكذبك يا بني، إن في لحماقة ... إن صرامة عمر بن الخطاب قد انحدرت إلي في أصلاب أجدادي من النسب البعيد، ولكن صرامة عمر حين انحدرت إلي صارت حماقة، فهذه الحماقة عندي يا بني هي تلك البقية من صرامة عمر، بعدما تخطت إلي هذا الزمن البعيد في تاريخ الأجيال ...!»
9
قال: «ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضت وفي يدي عصاي، فتقدمت إلى الباب خطوة فدفعته بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجها لوجه، وإلى جانبه رجل أوربي يحدثه ... فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي، وأحسبني قد خرجت يومئذ عن حدود الأدب اللائق في الحديث معه، ولكني لم ألق بالا إلى شيء من ذلك، وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا علي بعد ذلك من غضبه أو رضاه ...
ولكن ... ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار ... وصدقته حين ابتسم ...!» •••
وأسرها الإبراشي باشا في نفسه، فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك، ونشرت القصيدتان جنبا لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام.
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله: أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني - يريد الإبراشي - أهذا شعر يقرن إلى شعري، أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبهم شاعرا من طبقتي أو يجعلونني شاعرا من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة «شاعر الملك» ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلا ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج ...
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك، فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه، فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي ... وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه ...
وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!
صفحة غير معروفة