حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير، فكانت بين الرافعي وكثير من المديرين صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين، ولكن منهم رجلا واحدا كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن تلامذته ... وهو المرحوم «محمد محب باشا» أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية، وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد.
لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحيانا كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتا ما، وعند هذا الصديق وقتا آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف؛ لينظر فيما اجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود ...
وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه ما يتحدثون به فيهز كتفه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة، وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة ...!
وحدث ذات مرة والرافعي في صدر شبابه، أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثوا، فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي، وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء، ورفع الرئيس كتابا إلى وزارة العدل يبلغها أن في محكمة طنطا كاتبا أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح، على شدة اتصال عمله بالجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل، ولا يخضع للرأي ... وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة!
وأرسلت وزارة العدل مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، ليري رأيه فيما طلبته محكمة طنطا، وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك، ولم تكن بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلي هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبولون ... وإلا ... وإلا كلمة قاسية كان الرافعي كتبها بأسلوبه اللاذع عن «شعراء العصر» في سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيل الشعراء ...
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق ... وقال الرافعي: «قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يسند إلي من عمل، وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل حتى يحين موعد الانصراف، فلا علي إن تمردت على هذا التعبد ... قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هاتين الإصبعين ساعات من النهار ...!»
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر ثم طوى أوراقه وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة العدل يقول: إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود ... إن للرافعي حقا على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية، إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتن ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخي في غير هذا المكان ...!
وبلغ التقرير وزارة العدل، وانطوت القضية، وصار تقليدا من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه وله الخيرة في أمره، ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوما واحدا أنه في موضعه ذلك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما، ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا، فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود، وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبات الشعر والأدب، فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان، وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر، وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس، ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينه وبين المرحوم حافظ إبراهيم من صلة الود والإخاء.
حدثني المرحوم جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيرا، أو يجتمعان في قهوة «اللوفر» بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحيانا، فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
صفحة غير معروفة