قلت: «أظن!»
فعاد إلى سكوته وفي وجهه الأسف!
وجاءه بعد يومين جواب صديقه بالبريد، فيه عذل، وفيه عتاب، وفيه ورقة بجنيه يطلب إليه أن يشتري به سبحة مثلها إن وجد ...!
وقرأ الرافعي رسالة صديقه، وكان حريا أن يشتد به الأسف لجواب صديقه، لولا أن هذا الجنيه قد محا ما كان في نفسه ... فاستبقاه لنفسه ...!
في يومه الأخير
في الساعة الثانية بعد ظهر الأحد 9 مايو سنة 1937، نهض الرافعي عن مكتبه في المحكمة منطلقا إلى داره، يرافقه صديقه الأديب أمين حافظ شرف - وهو كان رفيق أوبته كل يوم - وتحت إبطه عديد من الكتب والصحف والمجلات، تعود ألا يسير إلا ومعه مثلها، وفي يمناه عصا لا يعتمد عليها، ولكنه تعود ألا يمشي إلا بها.
وافترق الصديقان وبينهما ميعاد على اللقاء مساء في مكان ما؛ ليذهبا معا لمشاهدة فرقة راقصة هبطت المدينة منذ قريب، وتغدى الرافعي وصلى الظهر ونام، ثم نهض بعد ساعتين، فصلى العصر وجلس إلى أولاده يداعبهم ويمزح معهم ويتبسط لهم، على عادة تعودها، ثم ذهب إلى عيادة ولده الدكتور محمد حيث لقي هناك أخاه الدكتور محمد النبوي، وصهره الأستاذ مغازي البرقوقي، فجلس يمزح ويضحك ويتندر أكثر مما عرف عنه من المزاح والضحك والتندر في يوم من الأيام، ثم صلى المغرب والعشاء في العيادة، وصحب أخاه إلى مأتم جار من العامة ليعزيا أهله، والمعروف عن الرافعي أنه كان يكره حضور المآتم وتقديم التعازي كراهة ظاهرة، وقلما كان يشاهد في مأتم، حتى إنه لما توفيت زوج ابنه سامي، لم يجلس في المأتم إلا لحظات، ثم انفرد في خلوته يستوحي الحادثة مقاله المعروف «عروس تزف إلى قبرها!» وجاء المعزون يلتمسون الرافعي فلم يجدوا إلا ولده وصهره ...
1
أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسبا ويعقد آصرة بالعالم الثاني، أم كان ذلك ميعادا إلى لقاء قريب ...!
ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشيا، واتخذ طريقهما راجلين إلى حيث أرادا، فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما أخذ من وحي الراقصات لفنه وأدبه، وأخذ صديقه ما أخذ ...
صفحة غير معروفة