فمن هذه المذكرات وتلك الرسائل استملى الرافعي مقالات «الطائشة» و«دموع من رسائل الطائشة» و«فلسفة الطائشة».
هي قصة لا افتعال فيها وليس فيها شيء من صنع الخيال، وما حكى الرافعي من رسائل الطائشة هو من رسائلها نفسها كما نقلها إليه صاحبها، وفلسفتها هي فلسفتها كما فهمها الرافعي من رسائلها ومما كان من أمرها مع صاحبها.
ولقد نال الرافعي من ملامة الفتيات ما ناله بسبب هذه المقالات، وقرأها أكثر من قرأها منهن على أنها قصة من الخيال اخترعها الرافعي ليحتج بها فيما يحتج لمذهبه في الحب والمرأة وتجديد الأخلاق، والحقيقة فيها هي ما قدمت، وقد زاد الرافعي إيمانا بمذهبه بعد هذا الذي سمع من صاحبه وقرأ من مذكراته ومن رسائله!
ولم يكتب الرافعي قصة «الطائشة» على أنها قصة؛ إذ كان صاحبها قد كتب قصتها على طريقة من فنه، فآثر الرافعي أن يتناولها من أطرافها ليحكم بها حكمه ويتحدث عن رأيه في طائفة من فتيات العصر، فترك صلب القصة ليكون حديثه تعليقا وحاشية.
وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها، فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفا بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته، ونبض قلبه، وإحساس روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئا من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب، وكان هذا دليل الصدق عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته.
ولما كتب المقالة الثالثة «دموع من رسائل الطائشة» خلا إلى نفسه أسبوعا ليستجم، وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من «كلمة وكليمة» وفيها حديث عن العقاد.
3
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان «فلسفة الطائشة».
ثم أملى علي مقالة «كفر الذبابة» يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية، وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة.
وكانت مقالة «كفر الذبابة» هي آخر ما أملى علي من المقالات، وذلك في صيف سنة 1935، ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في سيدي بشر، وتهيأت للسفر إلى القاهرة لبعض شئون العمل المدرسي، وانتقلت بعدها إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع، فأسبوعا أزوره في طنطا، وأسبوعا يزورني في القاهرة، على أن الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة 1937، قبل موته ببضعة أشهر، ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، وكان آخر مجلس لنا في قهوة «پول نور» بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، والسيد زيادة، ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه أشياء ...!
صفحة غير معروفة