ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفة من الأمثال، ونبهه ذلك من بعد إلى العناية بجمع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه، كما أفاد الرافعي من صداقة هذا «الفيلسوف الطبيعي» معاني وأفكارا جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد 71 سنة 1934 وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحنا يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلا بهذه المقالة احتفالا كبيرا، حتى إنه هم بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج، وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلف من الأوراق. •••
لم تكن قصة «بنت الباشا» هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه، ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة، جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد، ومنها مقالة «احذري»، وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بإزاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة «لحوم البحر».
وكان الرافعي في هذه الفترة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشبان اللاهين، كانت تجمعهم قهوة «لمنوس» في طنطا للعبث واللهو والمجانة، فتألفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج، وقد قدمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كما كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثا، ثم يزين له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع، فتراه كما ترى الفتى المراهق، يجد حديث الغزل والحب حريقا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثا في أذنيه ... فيستزيد مما يسمع وهو صاغ ملذوذ، فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال ...!
وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني «الجنس» إلى هذا الحد، كان بإيمانه وخلقه وتدينه واعتصامه بالوحدة، قليل الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب، فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل، وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتى وكل فتاة، وكان هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء .
من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة «احذري»، كما كانت توحي إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضوعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق. •••
وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان، كان بينه وبينهم صداقة ومودة، فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به، والرافعي محدث لبق ظريف المسامرة، فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه ... وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هناك جوا يوحي إليه ويمده بعلم جديد.
وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى «زيارة مصرية» إلا فيما ندر، على أني كثيرا ما كنت أصحبه في تلك الزيارات!
وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنى مما يتصل بفنه وأدبه، وأحسب أن كثيرا ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه، وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجال في مصر!
صفحة غير معروفة