أنا لا أعبأ بالمظاهر التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيل إلي دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه ...
الرافعي
لم يعمل الرافعي في صحيفة من الصحف الدورية قبل أن يتصل حبله بالرسالة؛ فإن مذهبه الأدبي لم يكن يعينه على ذلك، وقد قدمت القول عن طريقته في الكتابة، وليس يتسع الوقت لمن يكون هذا مذهبه في الإنشاء أن يعمل في صحيفة من الصحف تظهر لقرائها في مواعيد رتيبة ...
على أنه كان يكتب قبل ذلك مقالات للهلال والمقتطف وغيرهما في فترات متباعدة إذا وجد في نفسه حافزا للكتابة، أو إذا دعته صحيفة من الصحف إلى إنشاء مقال يراه حقيقا بالكتابة ...
فلما دعته الرسالة إلى الاشتراك في تحريرها وحددت له عمله وجزاءه، تردد في الجواب، لكنه لم يلبث أن لبى نداءها؛ لعله يستعين بما يحصل له من أجر الكتابة في الرسالة على أمر من أمره ...
كان ولده الدكتور محمد يومئذ يدرس الطب في جامعة ليون-فرنسا على نفقة جلالة الملك، ولكن الإبراشي باشا لأمر ما قطع عنه المعونة الملكية وليس بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فحمل الرافعي بذلك من الهم ما حمل؛ إذ لم يكن له طاقة مالية تعينه على الإنفاق على ولده في فرنسا، فمن ذلك أجاب «الرسالة» إلى ما طلبته ...
كان ذلك في ربيع سنة 1934.
فظل يكتب لها كل أسبوع مقالة أو قصة، لا يفتر عن هذا الواجب إلا أن يمنعه المرض أو تشغله شاغلة من شواغل الحياة، ومات وهو يتهيأ لكتابة مقالته الأسبوعية، ولكن القضاء عاجله فخلفها على مكتبه ورقة بيضاء ...!
وسأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن كل مقالة من المقالات التي أملاها علي في الفترة التي صحبته فيها منذ بدأ العمل في الرسالة حتى صيف سنة 1935، وما يجهل القراء أن كل مقالة يكتبها كاتب لها ظروفها وملابساتها ودوافعها، وما يجهلون أن لكل كاتب عند كل مقالة يكتبها حالة نفسية خاصة يهر أثرها فيما يكتبه، وإني لأعلم أن هذا التاريخ لا يتم تمامه في نفسي ولا يتأدى مؤداه إلى قارئه على وجهه إلا أن أثبت بعض ما أذكر من دوافع الرافعي إلى كل مقال مما أملاه علي، وإني بهذا الفصل لأحاول جديدا في فن الترجمة، فما أعرف كاتبا من كتاب التراجم في العربية حفل بهذا الباب في تاريخ الأدباء ، على أن له أثرا أي أثر في دراسة أدب المترجم يعين على فهمه وتصويب الحكم عليه؛ فمن ذلك كانت عنايتي بهذا الباب، وإني لأرجو أن تعينني الذاكرة على تمامه حتى أبلغ منه إلى ما أريد ... •••
لم يكن بين الرافعي والزيات صلة ما قبل صدور الرسالة، إلا صلة الأديب بالأديب، وما أحسبهما التقيا قبلها قط إلا في كتبهما ورسائلهما، ثم صدرت الرسالة فكانت بريد الأدباء عامة إلى الأدباء عامة، وكانت بريد الزيات إلى الرافعي، فتعارفا وائتلفا وإن لم يلتقيا وجها لوجه ... ومضت أشهر ...
صفحة غير معروفة