وإذ كان في أذني الرافعي ذلك الوقر الذي يقطعه عن دنيا الناس، فإن أسلوبه في الكتابة كان بعيدا عن فهم الكثير من ناشئة القراء، فلما اصطفاني بالود، أخذت على نفسي أن أكون أذنه التي يسمع بها ما يقال عنه وما يرى القراء في أسلوبه، فكنت إذا جلست إليه ليملي علي، حاورته فيما يدق على الأفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القراء، ثم لا أزال به حتى يغير العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع، وكان ينكر ذلك علي أول أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحيانا يوشك أن يغضب، وأنا أتلطف له وأحتال عليه، ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي علي العبارة من المقال، ثم يسألني: «ماذا فهمت مما كتبت؟» فإذا كان ما فهمت يطابق ما في نفسه، مضى في إملائه، وإلا عاد إلى ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد، وبلغ في النهاية أن يسميني - على المزاح - العقل المتوسط من القراء ...! •••
لم ينشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتاب الصحف الأسبوعية، وكان له بطانة من هؤلاء الكتاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثا فيملي عليهم جوابه، ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره.
في هذه الفترة، وكل إليه الأديب حسام الدين القدسي الوراق تصحيح كتاب «ديوان المعاني» لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح له أغلاطه ويتم نقصه، على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب.
وقبل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره؛ ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه، وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوى عليها إلا القليل من الأدباء، ومضى في هذا العمل شهرا أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي، فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءا غير قليل، وقد استطعت في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب، أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية، وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة، من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بإزاء مكتبة دقيقة الترتيب منظمة التوبيب ما شئت من بحث هدتك إليه قبل أن تبحث عنه، على أنه كان أحيانا يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمة، فيضع فكره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام، وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور، وقد حدث مرة أن ظل الرافعي يبحث يوما كاملا عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية، فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب، وفجأة ترك ما هو فيه وقال: «اسمع! ناولني ذلك الكتاب!» فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ يتصفحه قليلا ثم قال: «لقد وجدته ... هذا هو البيت الذي كنت أبحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!» وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي بين يدي، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر ... أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان ...؟ •••
ولم يكتب الرافعي في هذه الفترة إلا بضع مقالات، وكان لكل مقال حافزه ودواعيه: (1)
كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة «كوكب الشرق» كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة، فبدا له يوما أن يكتب في الموازنة بين قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة
وقول العرب: «القتل أنفى للقتل!» فانزلق إلى رأي ... وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو من هو عند الرافعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه بقدس القرآن ... ولم يكن الرافعي يواظب يومئذ على قراءة كوكب الشرق.
وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن، ودفع إلي الرافعي برسالة شاكر وهو يقول: «أتصدق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود، أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟»
ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها، فما كاد يقرؤها حتى اربد وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضبا إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى علي مقالة طويلة بعنوان: «كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!»
صفحة غير معروفة