وقد كان السيد المسيح يعظ التلاميذ ويقول لهم: ماذا تركتم للأمم؟ لأنهم أبناء أمة أولى بها أن تستمع إلى الحق من أبناء الأمم كافة، وهم غير مختارين.
وقد كان يرسل التلاميذ للدعوة، وينهاهم أن يدخلوا السامرة، ويحذرهم على العموم أن يطرحوا اللآلئ تحت أقدام الخنازير.
وعلى رفقه في الخطاب كان ينتهر المرأة الفينيقية التي أرادت منه كرامة من تلك الكرامات التي يخص بها أبناء يعقوب؛ لأنه ليس بالحسن أن يؤخذ الخبز من أبناء البيت ليلقي به إلى الكلاب.
وكان هذا الإيثار بديها كما قلنا من وحي الفطرة ووحي الكتب والدراسة، وكان كذلك حكمة من حكم الدعوة التي يراد لها النجاح، فإن المساواة بين العشيرة الأقربين، وبين الغرباء الموتورين كانت خليقة أن تقصي الأقربين، ولم يكن يقينا، ولا شبيها باليقين، أن تدني إليه أحدا من أولئك الغرباء الموتورين الذين يحاربونه، ويحاربون قومه، ويبادلونهم سوء الظن وتارات الانتقام؟
فماذا لو استجاب المدعوون إلى الدعوة على أحسن حال وأيسر احتمال؟ ماذا لو استجابوا بغير عناد وبغير استشهاد؟!
إن استجابوا جميعا إلى الدعوة، فقد دخلت الدعوة في نطاق «العصبية العنصرية»، ولم يتغير بها شيء في غير ذلك النطاق المحدود.
وإن لم يستجيبوا جميعا، واستجابت منهم فئة من فئات شتى، فغاية الأمر أنها فرقة تضاف إلى فرق الفريسيين والصدوقين والآسين والغلاة، بل قد حدث فعلا أن فئة من بني إسرائيل قبلت المسيحية على أنها «طائفة يهودية» سميت بالطائفة «الأبيونية»؛ أي طائفة الفقراء والدراويش، ثم ذهبت هذه الطائفة في الغمار، فلا هي إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولم يبق لها نصيب في تاريخ اليهود، ولم يبق لها نصيب في تاريخ المسيحيين!
بل حدث فعلا أن كنيسة مسيحية يهودية هجرت بيت المقدس إلى شرق الأردن، واعتزلت كنائس إسرائيل، وأقامت شرقا حيث تحرم الإقامة على سائر إسرائيل، وظلت ردحا من الزمن لا هي إسرائيلية خالصة، ولا هي مسيحية خالصة، ثم ذهبت في الغمار كما ذهب الأبيونيون.
لقد مر بنا المثل الذي ضربه السيد المسيح للمدعوين المتخلفين: مثل الأمير الذي أولم الولائم، وأرسل إلى الصفوة المختارين من الأقرباء والصحاب يدعوهم أن يفرحوا معه، ويشاركوه في طعامه وشرابه، فلم يجبه منهم أحد، وتعلل كل منهم بعلة تؤخره إلى ما بعد يوم الوليمة، فأقسم لا يحضرنها أحد بلغته الدعوة، وليملأنها بمن حضر، ومن لم يحضر، ومن تزويه الأزقة، أو تقذف به الطريق، وأبى أن يبقى مكان على المائدة خلوا من ضيف، وأصبح كل طارق ضيفا مقبولا على الرحب والسعة، وكذا تعمر وليمة السماء التي يتأخر المدعوون إليها، ويتقدم إليها من هم أحق بها؛ لأنهم يشتهون ما يعافه المدعوون المتبطرون.
قال السيد المسيح لمن دعاهم وألحف في دعواهم فأنكروه، وألحفوا في إنكاره: «إن الحجر الذي رفضه البناءون صار على رأس الزاوية. إن ملكوت الله ينتزع منكم، ويوهب لأمة تؤتيه ثماره. من سقط على ذلك الحجر رضه، ومن سقط الحجر عليه سحقه. هناك يكون البكاء وصرير الإنسان. هناك يدعى الكثيرون، ولا ينتخب إلا القليلون.»
صفحة غير معروفة