ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام.
فالذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، ولكنهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله، كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة، وكانت بداءة الألف الخامسة موعدا منظورا أو منذورا، يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدا منهم يسعده القدر فيكتب الخلاص على يديه.
والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أن النبي يحيى المغتسل (يوحنا المعمدان) كان علما من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يعتمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأن بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان، ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنه لم يكن من الناصرة، بل يزعم أن الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكن الأرجح في اعتقادنا أن الناصرة نفسها كانت تسمى نذيرة: بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديما، وأنها كانت مرقبا صالحا للاستطلاع؛ لأن التلول التي تحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير، وبهذا تزول الصعوبة التي اعترضت المفسرين الغربيين على الخصوص، ولا سيما الناظرين في اللغة اليونانية، لغة الأناجيل، فلا عجب أن يضلوا مع التصحيف اللساني فلا يفرقوا بين النسبة إلى المنذورين، والنسبة إلى النذيرة، وبخاصة إذا كان اسم البلدة قد عرض له التصحيف على ألسنة العبريين والغرباء على طول الزمن، فنطقوه تارة بالصاد وتارة بالسين.
وليس النذيرون طائفة موحدة كما أسلفنا، ولكنهم ينتمون إلى كل مذهب يوافق حمية الشباب، وهذا جعلهم قوات ذات بال في عصر الميلاد خاصة؛ لأنهم جميعا فتيان معمورة قلوبهم بالأمل، معقودة نياتهم على الإصلاح، يؤمنون بأنهم رواد الدعوة إلى المسيح الموعود، ويترقبون ظهوره للترحيب به، والإصغاء إليه، ولا تحيط بهم طائفة أو مذهب محدود.
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
فتحت سورية وفلسطين للدولة الرومانية على يد القائد الكبير «بومباي» الذي قضى على ثورة العبيد الثالثة بقيادة «سبارتاكوس» المشهور.
وقد حسبت هزيمة «سبارتاكوس» من العظائم التي أضافت إلى مجد بومباي، وخلدت ذكره بين أبطال الرومان، ولكن هذه العظائم تضفي على الأبطال والدول مجدا لا ينطوي على خير كبير، فمن دلائل القوة أن تستطيع الدولة قمع فتنة كتلك الفتنة الجبارة التي لم يعرف لها مثيل في ثورات العبيد الأقدمين، ولكنها ولا ريب دلائل القوة التي تقابلها دلائل الضعف من جانب آخر، فلو لم يكن في بنية الدولة صدع مخيف، لما استطاع عبد أن يجمع سبعين ألف عبد ويقهر بهم جيوش رومة زهاء ثلاث سنوات، ولولا خلل في كيان المجتمع، لما اشتمل على أضعاف هذا العدد من الأرقاء المسخرين الذين ينظرون إلى مجد رومة نظرة الحقد، ويجازفون بالحياة؛ ليهبطوا بها إلى الحضيض.
وقد كان سبارتاكوس من أهل تراقية، ولم يكن أول «عبد» شرقي ثائر على الدولة الرومانية، بل سبقه رقيق آخر من البلاد الشرقية إلى الثورة في صقلية سنة (143 قبل الميلاد)، واستطاع أن يقيم له عرشا استقر في الجزيرة عشر سنين، وهذه هي الثورة التي تجلى قائدها «أونس» لأتباعه في صورة النبي المرسل، وفي شارة الملك المتوج بيد الله، وكان أصله في سورية وكثير من أتباعه شرقيون.
وقد سبقت ثورة أونس السوري، ولحقت بها ثورات من قبيلها لم تبلغ مبلغها من العنف، ولم تخل إحداها من صبغة دينية فيما تدعيه لقادتها، وكانت واحدة منها في آسيا الصغرى تنشئ لها حكومة تسميها حكومة «الشمس»، رمزا إلى عبادة النور والحرية، وتقيم هذه الحكومة والثوار المنهزمون في صقلية يعلقون بالألوف على أخشاب الصلبان.
ولم يكن هذا الخطر الكمين خافيا على المصلحين من ساسة الرومان في الأجيال القريبة التي سبقت ميلاد السيد المسيح، فأرادوا إصلاح العيوب الاجتماعية بالرجعة إلى الشريعة التي تقيد المواريث، وتحرم زيادة الميراث على خمسمائة فدان، وظن كايوس جراشس
صفحة غير معروفة