الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
عصر «١» المؤلف
أولا:
عاش المؤلف كمال الدين الدّميري، في عصرين متجاورين، هما عصر دولة المماليك البحرية والمماليك البرجية، وقد عاصر من سلاطين الفترتين اثني عشر سلطانا ابتداء من عهد الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون الذي تقلد السلطنة سنة ٧٤٣ هـ حتى ٧٤٥ هـ، وانتهاء بالملك الناصر فرج بن برقوق المتوفى سنة ٨١٤ هـ.
الحال السياسية:
وإذا كانت الفترة الأولى قد تميّزت بنوع من الاستقرار السياسي، خصوصا في بداياتها أيام بيبرس وقلاوون وابنه حسن، فإن هذا الأمر لم يكن متاحا دائما في الدولة الثانية، ولو أن العصر شهد سلاطين أقوياء مثل برقوق، وبرسباي، وغيرهما. ولكن الاضطرابات الداخلية لم تتوقف طيلة العصر، بسبب الشهرة إلى السلطة والتنافس عليها والحسد، وكثيرا ما كان يثور حاكم المنطقة ضد سلطانه، وكذلك القواد وكبار الأمراء، وكان الاستيلاء على السلطة في أي وقت أمر متاح للقادة الكبار في الجيش لأن السلطة شبه عسكرية، مركزية، والقواد العسكريون، يتمتعون بنفوذ واسع. والخليفة لا يملك إلا الاسم والتوقيع فحسب. وكذلك عامة الناس كانوا أبعد ما يكونون عن المتغيرات السياسية، وهم الذين يتحملون أوزار الانقلابات العسكرية والثورات دائما.
الحروب والأوضاع العسكرية:
خاض المماليك، في الدولة البحرية، ومنذ قيامها، حروبا عدة مشرفة، كان أولها معركة عين جالوت سنة ٦٦٢ هـ التي أوقفت الزحف المغولي ووضعت له حدا، بل تراجع المغول بعد تلك المعركة منهزمين نحو الشرق، وتوالت المواجهات بعد ذلك، أيام الظاهر بيبرس الذي أمضى
1 / 3
سبعة عشر عاما، وهي مدة سلطنته، مجاهدا مقاتلا ضد الصليبيين والمغول، واستطاع أن يحرر الكثير من المواقع التي احتلها الفرنجة على سواحل الشام. والواقع إن هذه الفترة من حكم المماليك قد انقذت ما تبقى من بلاد الإسلام، وتصدت بشجاعة للغزوين المغولي والصليبي. وقد أعاد السلطان الظاهر بيبرس الخلافة العباسية إلى سابق مجدها وجعل القاهرة مقر الخلافة بعد سنة ٦٥٦ هـ حيث سقطت بغداد بأيدي المغول، واستمر الوضع العسكري على هذا المنوال في الدولة الثانية، حيث كان الفرنجة يحاولون النزول على سواحل الشام أو مصر بين وقت وآخر، فكانوا يتصدون لهم، وببسالة، حتى إن برسباي تعدى ذلك إلى أن غزا قبرس وأسر ملكها وغنم الغنائم العظيمة.
أما الحجاز، أيام الدولة الثانية، فكان يخضع للسلطة المركزية، في القاهرة، وكان السلاطين، يتدخلون عند الضرورة، لفض النزاعات على الحكم في مكة وما يليها. كما امتدت سلطة الدولة المملوكية إلى اليمن والسواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية.
الحال الاجتماعية:
إن التنافس على السلطة، والمعارك الجانبية التي كانت تشب هنا وهنالك في مصر والشام، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة ضد المغول ومن بعدهم الفرنجة الصليبيين، كانت تستنزف الطاقات المالية والاقتصادية في مصر، مما دفع الكثير من الملوك لفرض ضرائب جديدة كلما دعت الحاجة، مما أثقل كاهل الناس، خصوصا في مصر. ولم يقتصر الأمر، على الإنفاق الحربي، لكن اشتركت عوامل أخرى في تعقيد الأحوال المعيشية، من ذلك: الطاعون «١» والأوبئة الأخرى التى كانت تتفشى من وقت لآخر فيذهب آلاف الناس ضحية لذلك، وبالتالي ينعكس الأمر سلبا على البلاد لفقدان الأيدي العاملة في الزراعة وفي الحرف الأخرى، وأكثر ما يلاحظ ذلك في الدولة الثانية، حيث تفاقمت الضرائب «٢»، وازدادت المصادرات، وتغلب الجند على مقدّرات البلاد والعباد، وكثرت ثورات الأعراب، خصوصا في صعيد مصر. ويضاف على ذلك، ما كان يسببه انخفاض النيل من أزمة في ري المزروعات فتقل المواسم وترتفع الأسعار، ويكثر السلب والنهب والمصادرات.
أما طبقات الشعب، فكانت الطبقة الحاكمة، طبقة المماليك السلاطين، والأمراء، والجنود ومعظمهم كانوا يتحدرون من أصول غير عربية، وبعضهم لم يكن يتكلم العربية. وعامة الشعب، وتنقسم إلى تجار متوسطي الحال، والسواد الأعظم من الناس من المزارعين والفقراء.
الحال الثقافية:
إن الأوضاع السياسية، غير المستقرة، والأحوال الاقتصادية المتدهورة، والحروب التي لا
1 / 4
تكاد تتوقف، حتى تشتعل في غير مكان، كل ذلك كان عائقا في وجه أي نهضة علمية شاملة، ولم يكن من السهل تخطي ذلك الواقع، خصوصا وأن بغداد عاصمة العلم والحضارة في المنطقة كلها قد سقطت وضاع بسقوطها تراث أجيال، في العلوم المختلفة، وتشتت أهل العلم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من هام على وجهه ينشد الأمن والنجاة، وكان لحسن حظ بعضهم أن يمموا شطر مصر، فأفادوا منها وأعطوها من غزير علومهم، وبذلك تحوّلت الحركة العلمية إلى القاهرة فتوافد أهل العلم من جميع الأقطار الإسلامية، والعربية، إلى عاصمة الخلافة، نظرا لما تحتله هذه العاصمة من مكانة في قلوب أهل الإسلام باعتبارها ترفع راية الجهاد ضد قوى الطغيان والغزو، فضلا عن الرعاية التي لقيها أهل العلم في العهود المختلفة وفي الدولتين.
ورعاية المماليك للعلم والعلماء، تتمثل بإقامتهم للمدارس، وقد اوقفوا لها الأوقاف، واجروا الرواتب على المعلمين والمتعلمين، واهتموا بالمساجد، فعينوا لها الخطباء والأئمة حتى غدت هي أيضا مراكز علمية مشعة، فمن المساجد التي لعبت دورا بارزا في النهضة، الجامع الأزهر وقد ساهم في إحياء العلوم المختلفة، علوم اللغة والطب والرياضيات والموسيقى والحديث النبوي وعلوم القرآن وغير ذلك من علوم العصر، ومن المساجد التي لعبت الدور نفسه، جامع العطارين بالاسكندرية، وجامع دمياط، وجامع اسيوط، وقوص، وقفط. كما رعى السلاطين المدارس الدينية التي كانت تدرس الفقه على المذاهب الأربعة، وجامع عمرو بن العاص الذي كان يضم أربعين حلقة.
ومن الجدير بالذكر، أن ديوان الإنشاء كان من المؤسسات التي ساهمت في الإبقاء على العربية كلغة للتأليف والكتابة، باعتبار أن هذا الديون، هو الأكثر نشاطا في حقل الكتابة، فهو السجل الرسمي للدولة وفيه تدون كافة الوثائق الصادرة، والواردة، وكان يقوم بذلك كتاب أدباء بلغاء عملوا على إغناء العربية بأساليبهم الرفيعة، ولو طغى عليها بعض التصنع في بعض الأحيان.
ولا يفوتنا أن ننوه بما كان للقضاء من دور مميز، هو الآخر، حمل عبئا غير قليل في التّمكين للعربية ولأساليب التعبير من خلال ما يدونه القضاة من عهود ومواثيق وأحكام. ونظرا لما تقدم، فباستطاعتنا أن نرصد مئات الأعلام، علماء وأدباء، فمن المؤرخين أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي المتوفى سنة ٨٧٤ هـ، وشمس الدين السخاوي المتوفى سنة ٩٠٢ هـ، وتقي الدين المقريزي المتوفى سنة ٨٤٥ هـ. وابن إياس المتوفى سنة ٩٣٠ هـ. وفي اللغة والأدب: جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١ هـ والذي تعد مؤلفاته بالعشرات في كل علم وفن: في التفسير والحديث والفقه واللغة والنحو، وابن تيميه المتوفى سنة ٧٢٨ هـ.
ومن الجدير بالذكر أن أهل السلطة كانوا يقربون أهل المعرفة والأدب، ولكنهم تشددوا مع المنحرفين عن الدين، ومع أهل الفلسفة، ومن أهل الفلسفة التفتازاني سعد الدين، وعبد الرحمن الإيجي ونصير الدين الطوسي، وغيرهم.
1 / 5
وقد تنافس أهل العلم في اقتناء الكتب وجمعها، حتى ليقال إن نجم الدين بن حجي «١» ترك بعد وفاته ثلاثة آلاف مجلد من الكتب النفيسة. وذكر المقريزي، في القاهرة وحدها أربع عشرة مكتبة عامة. ولم تكن دمشق تقل شأنا في هذا المجال، وعرف فيها من المدارس العمرية والناصرية، وخزانة للكتب.
وفي حلب عرفت نهضة علمية، تمثلت بعدد المدارس التي كانت فيها حتى اجتياح تيمور لنك لها سنة ٨٠٣ هـ. إذ بلغ عدد مدارسها ثلاثمائة مدرسة، دمرها الغزو المغولي في ذلك الوقت، ولكن نشأت مدارس أخرى منها: الشعبانية، والعثمانية، والمنصورية، والخسروية «٢»، وكانت لها أوقاف جارية.
وعلى وجه العموم، فإن العصر المملوكي، بفترتيه، عرف نشاطا ثقافيا ملحوظا، في سائر العلوم والفنون، للأسباب التي أشرنا إليها حتى عدّت المؤلفات بعشرات الآلاف في مدة زمنية لم تتجاوز ثلاثمائة عام، تعاقب خلالها على الحكم سلاطين أشدّاء، وجهوا همهم إلى الحرب والجهاد، ولكنهم لم يغفلوا أبدا عن تشجيع العلوم وتقريب العلماء، فلا يخلو عصر أحد منهم من بناء جامع أو مدرسة، أو مكتبة كما فعل قلاوون، وابنه الناصر، والملك الظاهر جقمق، وبيبرس وقايتباي وقانصوه الغوري. وبعضهم كان مثقفا كالمؤيد شيخ الذي كان «يركز الفن وينظم الشعر، وله أشياء كثيرة من الفن دائرة بين المغنين الآن» «٣» .
ترجمة المؤلف «٤»
اسمه ونسبه:
محمد بن موسى بن عيسى بن علي الكمال أبو البقاء، الدّميري الأصل، القاهري الشافعي. كان اسمه كمالا بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه ثم تسمّى محمدا، وصار يكشط الأول، وكأنه، لتضمنه نوعا من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي.
نشأته وشيوخه:
ولد في القاهرة سنة ٧٤٢ هـ، وتكسّب بالخياطة، ثم أقبل على العلم، فسمع جامع الترمذي على مظفّر الدين العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي. كما سمع بالقاهرة من عبد الرحمن بن علي الثعلبي، ومن محمد بن علي الخزاوي: كتاب «الخيل» للحافظ
1 / 6
شرف الدين الدمياطي عنه. كما سمع «العلم» للمرهبي، ومن غيرهما شيوخهما.
وفي مكة المكرمة، سمع من الجمال محمد بن أحمد بن عبد المعطي: صحيح ابن حبّان، وغير ذلك. وسمع فيها سنن ابن ماجه، ومسند الطيالسي، ومسند الشافعي، ومعجم ابن قانع، وأسباب النزول للواحدي، والمقامات الحريرية وغير ذلك، على كمال الدين محمد بن عمر بن حبيب الحلبي.
وممن أخذ عنهم الشيخ بهاء الدين أحمد بن الشيخ تقي الدين السّبكي، وقد أجاز له النويري أبو الفضل كمال الدين بالفتوى والتدريس بناء على طلب السبكي.
ومن شيوخه في الفقه جمال الدين عبد الرحيم الإسنائي، وفي الأدب الشيخ برهان الدين القيراطي.
مؤلفاته:
وقد برع الدميري، في التفسير والحديث والفقه وأصوله، والعربية والأدب، وله تصانيف في العلوم المختلفة منها:
١- الديباجة، في شرح سنن ابن ماجه، وهو في خمس مجلدات.
٢- النجم الوهّاج، في شرح المنهاج للنواوي.
٣- حياة الحيوان الكبرى، وقد اختصره التقي «١» الفاسي سنة ٨٢٢ هـ.
٤- أرجوزة في الفقه.
٥- التذكرة.
٦- شعر ونظم.
٧- مختصر شرح لامية العجم للصفدي.
سيرته وطلابه:
كان خيّرا عابدا، صائما، وكان تصدى للتدريس والإفتاء في أماكن كثيرة من القاهرة منها:
الجامع الأزهر وكانت له حلقة ودرس أسبوعي. ودرّس الفقه في القبّة من خانقاه بيبرس بالقاهرة.
من أهم تلاميذه، الذين أخذوا عنه الحديث التقي الفاسي، في مصر والإمام صلاح الدين خليل بن الأقفهي، في مكة المكرمة.
وقد ذكّر ووعظ في مدرسة ابن البقري، وجامع الظاهر بالحسينية، كما درّس وأفتى أثناء مجاوراته في مكة المكرمة، وكان نزلها لأول مرة سنة ٧٦٢ هـ، فجاور ثم حج وكرر ذلك مرارا وتزوّج ورزق اولادا، وكان حجه الأخير سنة ٨٠٠ هـ، وانصرف من حجه ذلك إلى القاهرة حيث مات فيها سنة ٨٠٨ هـ، ودفن في مقابر الصوفية بسعيد السعداء.
1 / 7
منهج المؤلف
إن الدميري، قد رتّب كتابه على حروف المعجم، وضمنه من أسماء الحيوانات ما تنامى إلى سمعه، ومن مصادر كثيرة ومختلفة تتراوح ما بين كتب يونانية وعربية قديمة أو ما كان قريبا لعهد المؤلف، الذي اطلع على تلك الكتب، المتخصصة في عالم الطب والحيوان، ووعى ما فيها، ونقّحها، وطرح جانبا ما لم يقتنع به، وأقرّ ما رأى عليه إجماعا لدى العلماء، ومع حذره الشديد، فإنه قد أبقى على معلومات كثيرة، غريبة وعجيبة، ولكنه نقلها على ذمة أصحابها وناقليها، فأيّد كل مروياته بإسنادها إلى رواتها، بالتسلسل المعروف وصولا إلى المنشإ الأساس، ولم يفته أن يرد، حيث يقتضي الأمر، على الأغاليط.
أما طريقته في عرض المعلومات، فإنه يبدأ بوصف الحيوان، بعد أن يضبط اسمه ضبطا تاما بالشكل، ويعرّف بالأصل اللغوي له، ويقدم بعد ذلك عرضا لبعض الأخبار والمرويات التي تدل على طبائع ذلك الحيوان، وفي هذا الإطار يستحضر طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، والآيات القرآنية الكريمة التي لها علاقة بالموضوع، فضلا عما جاء حوله من أشعار قديمة، وأمثال وحكم. ثم يورد ما قاله الفقهاء في شأن الحيوان المذكور من حيث الحكم الشرعي في أكله أو عدمه، يؤيد ذلك بالأقوال المختلفة، وبأحاديث نبوية وآيات كريمة، وينتهي إلى ذكر الخواص الطبية من المنافع والمضار من لحم ذلك الحيوان أو غيره.
منهج التحقيق
اعتمدت في تحقيق الكتاب، الطبعة المصرية، التي توزعها مكتبة محمود توفيق الكتبي بمصر، وهي طبعة قديمة، لا تخلو من الأخطاء، وتقع في مجلدين كبيرين، وصفحاتها كبيرة يزيد عدد الأسطر في كل صفحة على ثلاثين سطرا، وعدد كلمات كل سطر يتراوح ما بين خمس عشرة إلى عشرين كلمة.
ولقد قمت بضبط نصوص الكتاب، بوضع علامات الوقف، والحركات المناسبة في أواخر الكلمات حيث يلزم. ثم حددت بدايات: للمقاطع والفقرات، وانتقلت بعد ذلك إلى تحقيق الكتاب، بتخريج الأبيات الشعرية من مصادرها في الدواوين، وفي أمهات كتب الأدب والتاريخ، وخرّجت الآيات، والأحاديث النبوية ما أمكنني، ولم اهتد إلى بعض الأحاديث فتركتها، ولم أشر إلى ذلك. كما خرّجت أمثال الكتاب، وعرّفت بأعلامه وخصوصا الشعراء، بإشارات سريعة، ولم اتوقف على الدقائق، والتفاصيل لغير حاجة.
وبعد، فإن ما قمت به، ما هو إلا محاولة متواضعة، أرجو أن أكون قد وفقت في مسعاي، لإخراج هذا الكتاب في حلة جديدة تليق به، داعيا المولى ﷿ أن ينفعنا به، إنه سميع مجيب.
والله الموفق أحمد حسن بسج بيروت في ١٧ جمادى الأولى ١٤١٤ هجرية الموافق ١/١١/١٩٩٣ رومية
1 / 8
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي شرف نوع الإنسان، بالأصغرين: القلب واللسان، وفضله على سائر الحيوان بنعمتي المنطق والبيان، ورجحه بالعقل الذي وزن به قضايا القياس في أحسن ميزان، فأقام على وحدانيته البرهان. أحمده حمدا يمدنا بمواد الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي لا يدرك كنه ذاته بالحدود والرسوم ذوو الأذهان، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المخصوص بالآيات البينات كل البيان، ﷺ وعلى آله وصحبه، صلاة وسلاما يدومان ما دام الملوان، ويبقيان في كل زمان وأوان.
وبعد، فهذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، ولا كلفت القريحة تأليفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس، التي لا مخبأ فيها لعطر بعد عروس، ذكر مالك الحزين والذيخ المنحوس، فحصل في ذلك ما يشبه حرب البسوس، ومزج الصحيح بالسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، وتحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى، وصيروا الأروى مع النّعام ترعى، وقضوا باجتماع الحوت والضب قطعا، واتخذ كل أخلاق الضبع طبعا، ولبس «١» جلد النمر أهل الإمامة، وتقلدها الجميع طوق الحمامة.
والقوم إخوان وشتى في الشيم ... وقيل في شأنهم: اشتدي زيم «٢»
وظن الكبير أنه «أصدق من القطا «٣» وأن الصغير كالفاختة غلطا، وصار الشيخ الأفيق، كذات التحيين والمعبد ذو التحقيق كالراجع بخفي حنين «٤» والمقيد كالأشقر تحيرا، والطالب كالحباري تحسرا، والمستمع يقول: كل الصيد في جوف الفرا «٥» والنقيب كصافر يكرر «أطرق كرا» «٦» فقلت عند ذلك في بيته يؤتى الحكم، وبإعطاء القوس باريها «٧» تتبين الحكم، وفي الرهان سابق الخيل يرى، «وعند الصباح يحمد القوم السّرى» «٨» واستخرت الله تعالى وهو الكريم
1 / 9
المنان، في وضع كتاب في هذا الشأن وسميته حياة الحيوان، جعله الله موجبا للفوز في دار الجنان، ونفع به على ممر الأزمان، إنه الرحيم الرحمن ورتبته على حروف المعجم، ليسهل به من الأسماء ما استعجم.
باب الهمزة
الأسد
: من السباع معروف، وجمعه أسود وأسد وآسد وآساد والأنثى أسدة وفي حديث «١» أم زرع: «زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد» . وله أسماء كثيرة، قال ابن خالويه: للأسد خمسمائة اسم وصفة. وزاد عليه علي بن قاسم بن جعفر اللغوي مائة وثلاثين اسما فمن أشهرها: أسامة والبيهس والنآج والجخدب والحارث وحيدرة والدوّاس والرئبال وزفر والسبع والصّعب والضّرغام والضّيغم والطيثار والعنبس والغضنفر والفرافصة والقسورة وكهمس والليث والمتأنّس والمتهيّب والهرماس والورد. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. ومن كناه أبو الأبطال وأبو حفص وأبو الأخياف وأبو الزعفران وأبو شبل وأبو العباس وأبو الحارث.
وإنما ابتدأنا به لأنه أشرف الحيوان المتوحش؛ إذ منزلته منها منزلة الملك المهاب، لقوته وشجاعته وقساوته وشهامته وجهامته وشراسة خلقه، ولذلك يضرب به المثل في القوّة والنجدة والبسالة وشدّة الإقدام والجراءة والصّولة. ومنه قيل لحمزة بن عبد المطلب ﵁: أسد الله ويقال: من نبل الأسد أنه اشتق لحمزة بن عبد المطلب من اسمه، وكذلك لأبي قتادة، فارس النبي ﷺ. ففي صحيح مسلم، في باب إعطاء القاتل سلب المقتول. فقال «٢» أبو بكر ﵁: «كلا والله لا يعطيه أضيبعا من قريش، ويدع أسدا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله» . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة.
وهو أنواع كثيرة، قال أرسطو: رأيت نوعا منها يشبه وجه الإنسان، وجسده شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، ولعل هذا هو الذي يقال له الورد. ومنه نوع على شكل البقر له قرون سود نحو شبر، وأما السبع المعروف فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان، يقولون: إن الأنثى لا تضع إلّا جروا واحدا تضعه لحمة ليس فيه حسّ ولا حركة، فتحرسه كذلك ثلاثة أيام، ثم يأتي أبوه بعد ذلك فينفخ فيه، المرة بعد المرة، حتى يتنفس ويتحرك وتنفرج أعضاؤه، وتتشكل صورته، ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيام من تخلقه، فإذا مضت عليه بعد ذلك ستة أشهر، كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب. قالوا: وللأسد من الصبر على الجوع، وقلة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السباع. ومن شرف نفسه: أنه لا يأكل من فريسة غيره، فإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها، وإذا جاع ساءت أخلاقه، وإذا امتلأ من الطعام ارتاض، ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب: وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
1 / 10
وأترك حبّها من غير بغض ... وذاك لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه
وقد ألغز بعضهم في القلم فقال «١»:
وأرقش مرهوف الشباة مهفهف ... يشتّت شمل الخطب وهو جميع
تدين له الآفاق شرقا ومغربا ... وتعنو له ملاكها وتطيع
حمى الملك مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الآجام وهو رضيع
وإذا أكل نهس من غير مضغ، وريقه قليل جدا، ولذلك يوصف بالبخر، ويوصف بالشجاعة والجبن، فمن جبنه أنه يفزع من صوت الديك، ونقر الطست، ومن السنور، ويتحير عند رؤية النار، وهو شديد البطش، ولا يألف شيئا من السباع لأنه لا يرى فيها ما يكافئه، ومتى وضع جلده على شيء من جلودها تساقطت شعورها، ولا يدنو من المرأة الحائض ولو بلغ الجهد، ولا يزال محموما، يعمّر كثيرا وعلامة كبره سقوط أسنانه؛ روى ابن سبع السبتي، في شفاء الصدور، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵄، أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذ هو بقوم وقوف، فقال: ما لهؤلاء القوم؟ قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم، فنزل عن دابته ثم مشى إليه حتى أخذ بأذنه، ونحاه عن الطريق، ثم قال له: ما كذب عليك رسول الله ﷺ بقوله:
«إنما سلطت على ابن آدم لمخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لم تسلط عليه ولو لم يرج إلا الله ﵎ لما وكله إلى غيره.
وفي سنن أبي داود، من حديث «٢» عبد الرحمن بن آدم، وليس له عنده سواه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال: «ينزل عيسى بن مريم ﵊ إلى الأرض وكأن رأسه يقطر، ولم يصبه بلل، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويفيض المال وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات ولا يضر بعضهم بعضا؛ ثم يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
وفي الحلية لأبي نعيم، في ترجمة ثور بن يزيد، قال: بلغني أن الأسد لا يأكل إلّا من أتى محرّما. وقصة سفينة مولى رسول الله ﷺ، مع الأسد مشهورة، رواه البزار والطبراني وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم.
وذكر البخاري في تاريخه أنه بقي إلى زمن الحجاج، روى محمد بن المنكدر عنه أنه قال:
1 / 11
«ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا فأخرجني إلى أجمة فيها أسد، فأقبل إلي فقلت:
أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ، وأنا تائه فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق، ثم همهم، فظننت أنه السلام» .
وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن ابن المنكدر أيضا، أن سفينة، مولى رسول الله ﷺ، أخطأ الجيش بأرض الروم، وأسر في أرض الروم، فانطلق هاربا يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد فقال له: «يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبص، حتى قام إلى جنبه، فلم يزال كذلك حتى بلغ الجيش، فرجع الأسد» .
واختلف في اسم سفينة ﵁ فقيل رومان وقيل مهران وقيل طعمان وقيل عمير.
روى مسلم له حديثا واحدا والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ودعا النبي ﷺ، على عتبة بن أبي لهب، فقال: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد بالزرقاء من أرض الشأم. رواه الحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه وقال صحيح الإسناد.
وروى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى الأسود بن هبّار قال: تجهز أبو لهب وابنه عتبة نحو الشأم، فخرجت معهما فنزلنا الشراة قريبا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما أنزلكم ههنا؟
هنا سباع فقال أبو لهب: أنتم عرفتم سني وحقي، قلنا: أجل. قال: إن محمدا دعا على ابني فاجمعوا متاعكم على هذه الصومعة، ثم افرشوا لابني عليه، وناموا حوله، ففعلنا ذلك وجمعنا المتاع حتى ارتفع، ودرنا حوله، وبات عتبة فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا ثم وثب فإذا هو فوق المتاع فقطع رأسه فقال: سيفي يا كلب ولم يقدر على غير ذلك وفي رواية فوثب الأسد فضربه بيده ضربة واحدة فخدشه فقال: قتلني فمات لساعته وطلبنا الأسد فلم نجده. وإنما سماه النبي ﷺ كلبا لأنه يشبهه في رفع رجله عند البول.
فائدة: روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال «١»: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» .
وفي حديث آخر أنه ﷺ أخذ بيد مجذوم وقال «٢»: «بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وأدخلها معه الصّحفة» .
قال الشافعي ﵀ في عيوب الزوجين: إن الجذام والبرص يعدي وقال: إن ولد المجذوم قلما يسلم منه. قلت ومعنى قول الشافعي ﵁ إنه يعدي، أي بتأثير الله تعالى لا بنفسه، لأن الله تعالى أجرى العادة بابتلاء السليم عند مخالطة المبتلي، وقد يوافق قدرا وقضاء، فيظن أنه عدوى. وقد قال «٣» ﷺ: «لا عدوى ولا طيرة»، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما
1 / 12
قوله في الولد: «قلما يسلم منه» فقد قال الصيدلاني: معناه أن الولد قد ينزعه عرق من الأب فيصير أجذم. وقد قال «١» ﷺ لرجل قال له: إن امرأتي قد ولدت غلاما أسود «لعل عرقا نزعه» وبهذا الطريق يحصل الجمع بين هذه الأحاديث.
وجاء في الحديث أنه ﷺ «٢»: «لا يورد ذو عاهة على مصح» وإنه ﷺ أتاه مجذوم ليبايعه، فلم يمد يده إليه بل قال «٣» له: «أمسك يدك فقد بايعتك» .
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال: «لا تطيلوا النظر إلى المجذوم، وإذا كلمتموه فليكن بينكم وبينه قدر رمح» .
وقد ذكر الشيخ صلاح الدين العراقي، في القواعد، أن الأم، إذا كان بها جذام أو برص، سقط حقها من الحضانة، لأنه يخشى على الولد من لبنها ومخالطتها، واستدل بقوله «٤»: ﷺ: «لا يورد ذو عاهة على مصح» . والذي ذكره ظاهر وهو المختار. ويؤيد ما أفتى به ابن تيمية «٥» صاحب المحرر، من الحنابلة ﵀ وصرح به أئمة المالكية، أن المبتلي لو أراد مساكنة الأصحاء في رباط أو غيره، منع إلّا بإذنهم. ولو كان ساكنا وابتلي أزعج وأخرج. وأما أصحابنا فصرّحوا بأن الأمة إذا كان سيدها مجذوما وجب عليها تمكينه من الاستمتاع وهذا مع إشكاله قد أورد في الروضة في الزوجة المختارة للمقام مع الزوج المجذوم، وقد يفرق بينهما بقوة الملك. والله أعلم.
وقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ، قال لامرأة: «أكلك الاسد فأكلها» .
وروى الطبراني وأبو منصور الديلي، والحافظ المنذري، عن أبي هريرة ﵁، أن النبي ﷺ قال: «أتدرون ما يقول الأسد في زئيره؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنه يقول:
اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف» .
فائدة أخرى: روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب ﵃ أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه الأسد، فقل: أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد اهـ. «٦»
أشار بذلك إلى ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال ﵇ طرح في جب وألقيت
1 / 13
عليه السباع، فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه، فأتاه ملك فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ فقال: أنا رسول ربك أرسلني إليك بطعام. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره. اهـ.
وروى ابن أبي الدنيا أن بختنصر ضرّى أسدين، وألقاهما في جب، وأمر بدانيال فألقي عليهما، فمكث ما شاء الله، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب، فأوحى الله تعالى إلى أرمياء، وهو بالشأم، أن يذهب إلى دانيال بطعام وشراب، وهو بأرض العراق، فذهب به إليه، حتى وقف على رأس الجب، وقال: دانيال دانيال، فقال: من هذا؟ فقال: إرميا فقال: ما جاء بك؟ قال:
أرسلني إليك ربك فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لا يكله إلى سواه، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة وغفرانا، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل منا.
ثم روى ابن أبي الدنيا من وجه آخر أنّ الملك الذي كان دانيال في سلطانه، جاءه المنجمون وأصحاب العلم، فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة. فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد ولبوة، فبات الأسد ولبوته يلحسانه، فنجاه الله تعالى بذلك حتى بلغ ما بلغ، وكان من أمره ما قدره العزيز العليم.
ثم روى بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال: رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ﵁ خاتما نقش فصّه أسدان، بينهما رجل، وهما يلحسان ذلك الرجل، فقال أبو بردة: هذا خاتم دانيال، أخذه أبو موسى حين وجده ودفنه فسأل أبو موسى علماء تلك البلدة عن ذلك، فقالوا: إن دانيال نقش صورته وصورة الأسدين، وهما يلحسانه، في فص خاتمه كما ترى لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. اهـ. فلما ابتلي دانيال ﵇ بالسباع، أوّلا وآخرا، جعل الله تعالى الإستعاذة به في ذلك تمنع شر السباع التي لا تستطاع.
وفي المجالسة للدينوري، عن معاذ بن رفاعة، قال: مر يحيى بن زكريا ﵉ بقبر دانيال النبي ﵇ فسمع صوتا من القبر يقول: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، فمضى فإذا هو بصوت من السماء أنا الذي تعززت بالقدرة، وقهرت العباد بالموت، من قالهن استغفرت له السموات السبع، والأرضون السبع، ومن فيهن. وكان دانيال ﵇، قد أتاه الله تعالى النبوة والحكمة، وكان في أيام بختنصر. قال أهل التاريخ: إن بختنصر أسر دانيال مع من أسر من بني إسرائيل، وحبسهم ثم رأى بختنصر رؤيا أفزعته وعجز الناس عن تعبيرها ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه، قالوا: وقبره بنهر السوس «١» ووجده أبو موسى الأشعري ﵁ فأخرجه وكفنه وصلّى، ثم قبره في نهر السوس وأجرى عليه الماء.
وفي المجالسة أيضا، قال عبد الجبار بن كليب: كنا مع إبراهيم بن أدهم في سفر فعرض لنا
1 / 14
الأسد فقال إبراهيم: قولوا: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا يا ألله يا ألله يا الله. قال فولى الأسد عنا هاربا.
قال: فأنا أدعو به عند كل أمر مخوف فما رأيت إلا خيرا.
فائدة: قال بعض العلماء المحققين: ومما جرب لإذهاب الخوف والهم والغم أن يكتب هاتين الآيتين، ويحملهما فإن الله تعالى يبارك له في جميع أحواله، وينصره على أعدائه، وهما ينفعان للأمراض الباطنة، وكل ألم يحدث في بدن الإنسان، وكل آية منهما تجمع الحروف المعجمة بأسرها، وتكتب في إناء نظيف وتمحى بدهن ورد، أو زيت طيب، أو شيرج يطلى به الألم كالدمل والطلوع والحرارة والريح والثآليل والنفخ والقروحات بأسرها فإنه يزول ويبرأ من يومه في الغالب كما جرب مرارا وهما من الأسرار المخزونة كذا قاله شيخنا اليافعي ﵀.
الآية الأولى من سورة آل عمران قوله «١» تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاسًا
إلى قوله تعالى: عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ*
. الآية الثانية من سورة الفتح قوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
إلى آخر السورة انتهى. وذكر بعض أهل التاريخ، أن ملكا من الملوك خرج يدور في ملكه فوصل إلى قرية عظيمة فدخلها منفردا فأخذه العطش فوقف بباب دار من دور القرية، وطلب ماء فخرجت إليه امرأة جميلة بكوز فيه ماء، وناولته إياه فلما نظرها افتتن بها فراودها عن نفسها، وكانت المرأة عارفه به فعلمت أنها لا تقدر على الامتناع منه، فدخلت وأخرجت له كتابا وقالت انظر في هذا إلى أن أصلح من أمري ما يجب وأعود فأخذ الملك الكتاب ونظر فيه فإذا فيه الزجر عن الزنا، وما أعد الله تعالى لفاعله من العذاب الأليم، فاقشعر جلده، ونوى التوبة، وصاح بالمرأة، وأعطاها الكتاب، ومر ذاهبا وكان زوج المرأة غائبا فلما حضر زوجها أخبرته الخبر، فتحير الزوج في نفسه، وخاف أن يكون وقع غرض الملك فيها، فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك ومكث على ذلك مدة، فأعلمت المرأة أقاربها بحالها مع زوجها فرفعوه إلى الملك فلما مثل بين يدي الملك، قال أقارب المرأة: أعز الله مولانا الملك، إن هذا الرجل قد استأجر منا أرضا للزراعة، فزرعها مدة ثم عطلها فلا هو يزرعها ولا هو يتركها لنؤجرها لمن يزرعها، وقد حصل الضرر للأرض، ونخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت، فقال الملك لزوج المرأة ما يمنعك من زرع أرضك؟ فقال: أعز الله مولانا الملك إنه قد بلغني أن الأسد دخل أرضي، وقد هبته، ولم أقدر على الدنو منها لعلمي بأن لا طاقة لي بالأسد ففهم الملك القصة فقال: يا هذا إن أرضك أرض طيبة صالحة للزرع فازرعها بارك الله لك فيها، فإن الأسد لن يعود إليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفه.
وفي تاريخ ابن خلكان أنه لما دخل المازيار على المعتصم وكان قد اشتد غضبه عليه فقيل له يا أمير المؤمنين لا تعجل، فإن عنده أموالا جمة، فأنشد المعتصم بيت أبي تمام «٢»:
1 / 15
إنّ الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب «١»
وقد أحسن خالد الكاتب «٢» حيث قال:
علم الغيث الندى حتى إذا ... ما وعاه علم البأس الأسد
فإذا الغيث مقرّ بالندى ... وإذا الليث مقر بالجلد
ومن شعره:
ظفر الحب بقلب دنف ... بك والسقم بجسم ناحل «٣»
وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل «٤»
وكان خالد شيخا كبيرا تأخذه السوداء أيام الباذنجان، وكان الصبيان يتبعونه ويصيحون به يا خالد يا بارد؛ فأسند ظهره يوما إلى قصر المعتصم وقال لهم: كيف أكون باردا وأنا الذي أقول:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مسعد من مثله ومعين «٥»
ورقّت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني
وفي روضة العلماء، أن نوحا ﵇، لما غرس الكرمة، جاءه إبليس فنفخ فيها فيبست، فاغتم نوح لذلك وجلس متفكرا في أمرها، فجاءه إبليس وسأله عن تفكيره؟ فأخبره فقال له يا نبي الله إن أردت أن تحضر الكرمة، فدعني أذبح عليها سبعة أشياء فقال: افعل، فذبح أسدا ودبا ونمرا وابن آوى وكلبا وثعلبا وديكا، وصب دماءهم في أصل الكرمة فاخضرت من ساعتها، وحملت سبعة ألوان من العنب، وكانت قبل ذلك تحمل لونا واحدا فمن أجل ذلك يصير شارب الخمر شجاعا كالأسد وقويا كالدب وغضبان كالنمر، ومحدثا كابن آوى، ومقاتلا كالكلب، ومتملّقا كالثعلب، ومصوتا كالديك، فحرمت الخمر على قوم نوح. ونوح اسمه عبد الجبار، وإنما سمي نوحا لنوحه على ذنوب أمته، وأخوه صابىء بن لامك وإليه ينسب دين الصابئين فيما ذكروا والله أعلم.
(تذنيب) كان أبو مسلم «٦» الخراساني واسمه عبد الرحمن بن مسلم بعد فراغه من أمر بني أمية ينشد كل وقت:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
1 / 16
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشأم قد رقدوا
حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
قال «١» ابن خلكان في ترجمته: وكان أبو العباس السفاح شديد التعظيم لأبي مسلم، لما صنعه ودبره، فلما مات السفاح وولي أخوه المنصور، صدرت من أبي مسلم أشياء أوغرت صدر المنصور عليه وهم بقتله، وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره، والاستشارة، فقال يوما لمسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
«٢» فقال: حسبك يا ابن قتيبة لقد أودعتها أذنا واعية ولم يزل المنصور يخدعه حتى أحضره إليه، والمنصور بالمدائن فأمر بإدخاله عليه، وكان المنصور قد رتب جماعة لقتله، وقال لهم: إذا رأيتموني قد مسحت بيدي وجهي فاضربوه، فلما أدخل عليه، أخذ المنصور يقرعه بما صدر منه ثم مسح وجهه، فبادروه فصاح استبقني لأعدائك يا أمير المؤمنين، فقال له المنصور وأي عدو أعدى منك يا عدو الله فلما قتل هاج أصحابه، فأمر المنصور بنثر الدراهم والدنانير عليهم فسكنوا! ورمى برأسه إليهم، ثم أدرج في بساط فدخل على المنصور جعفر بن حنظلة، فرأى أبا مسلم في البساط، فقال: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك فأنشد المنصور متمثلا:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر «٣»
ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد:
زعمت أن الدين لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم «٤»
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
وكان يقال له أبو مجرم أيضا وفيه يقول أبو دلامة «٥»:
أبا مجرم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدره ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
أبا مجرم خوفتني القتل فانتحي ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
ولما قتله المنصور، خطب الناس فذكر أن أبا مسلم أحسن أولا وأساء آخر. ثم قال في آخر خطبته: وما أحسن ما قال النابغة الذبياني «٦» للنعمان بن المنذر «٧»:
1 / 17
فمن أطاعك فانفعه لطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرّشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد «١»
والضمد بفتح الضاد المعجمة والميم الحقد. وكان قتله في شعبان سنة ست أو سبع وثلاثين ومائة. قال ابن خلكان وغيره: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث وروي عنه، وأنه خطب يوما فقام إليه رجل فقال ما هذا السواد الذي أراه عليك؟ فقال أبو مسلم: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله ﵄، أن النبي ﷺ دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه. قلت: حديث جابر هذا في صحيح مسلم قال ابن الرفعة: وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ صعد المنبر، وعلى رأسه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه، وهو أيضا في صحيح مسلم «٢» . قال ابن الرفعة: ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة السواد اهـ.
قيل: أحصي من قتله أبو مسلم صبرا وفي حروبه، فكانوا ستمائة ألف واختلف في نسبه فقيل من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وروي «٣» أنه قيل لعبد الله بن المبارك ﵀: أبو مسلم خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد ولكن كان الحجاج شرا منه اهـ. وكان أبو مسلم فصيحا عالما بالأمور ولم يرقط مازحا ولم يظهر عليه سرور ولا غضب، ولا يأتي النساء إلّا مرّة في السنة، وكان يقول: الجماع جنون ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة واحدة، وروي أنه قيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ قال:
لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وادنوا أعداءهم تألفا لهم، فلم يصر العدو صديقا بالدنو، وصار الصديق عدوا بالإبعاد. وكان أبو مسلم مميت دولة بني أمية، ومحيي دولة بني العباس.
وذكر ابن الأثير وغيره أن أبا جعفر المنصور لما حاصر ابن هبيرة قال: إن ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء. فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إليه أنت القائل كذا وكذا فابرز إلي لترى.
فأرسل إليه المنصور: ما أجد لي ولك مثلا في ذلك إلا كأسد لقي خنزيرا فقال له الخنزير: بارزني فقال له الأسد: ما أنت لي بكفء فإن نالني منك سوء كان ذلك عارا علي وإن قتلتك قتلت خنزيرا فلم أحصل على حمد، ولا في قتلي لك فخر. فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأعرفن السباع، إنك جبنت عني. فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطخ راحتي بدمك.
(الحكم): قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والجمهور: يحرم أكل الأسد لما روى «٤» مسلم في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام» . قال أصحابنا:
المراد بذي الناب ما يتقوى بنابه ويصطاد. وفي الحاوي للماوردي قال: الشافعي:
1 / 18
إنه ما قويت أنيابه فعدا بها على الحيوان طالبا غير مطلوب، فكان عدوه بأنيابه علة تحريمه. وقال أبو إسحاق المروزي: هو ما كان عيشه بأنيابه فإن ذلك علة تحريمه. وقال أبو حنيفة:
هو ما افترس بأنيابه وإن لم يبتدىء بالعدو، وإن عاش بغير أنيابه فهذه ثلاث علل: أعمها علة أبي حنيفة، وأوسطها علة الشافعي، وأخصها علة المروزي، فعلى العلتين الأوليين، يحل الضبع لأنه يتناوم حتى يصطاد، وتحل السنانير على قول الشافعي لأنها لم تتقو بأنيابها، وتكون مطلوبة لضعفها، لكن قد صحح الأصحاب تحريمها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، في باب السين المهملة. ويحل ابن آوى على ما علله الإمام الشافعي لأنه لا يبتدىء بالعدو، ويحرم على ما علله المروزي لأنه يعيش بنابه، وهذا هو الأصح كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وقال مالك: يكره أكل كل ذي ناب من السباع ولا يحرم، واحتج بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ
الآية «١» . واحتج أصحابنا بالحديث المذكور، قالوا: والآية ليس فيها إلّا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرما إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع فوجب قبوله والعمل به. قال الشافعي ﵁: ولأن العرب لم تأكل أسدا ولا ذئبا ولا كلبا ولا نمرا ولا دبا، ولا كانت تأكل الفأر ولا العقارب ولا الحيات ولا الحدأ ولا الغربان ولا الرخم ولا البغاث ولا الصقور ولا الصوائد من الطير ولا الحشرات. وأما بيع الأسد فلا يصح لأنه لا ينتفع به وحرم الله أكل فريسته.
(الأمثال): إنما كانت العرب أكثر أمثالها مضروبة بالبهائم، فلا يكادون يذمون ولا يمدحون إلّا بذلك لأنهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشرات، فاستعملوا التمثيل بها لذلك. روى الإمام أحمد بإسناد حسن والحسن بن عبد الله العسكري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: حفظت من رسول الله ﷺ ألف مثل، فلذلك ذكر العسكري في كتابه الأمثال ألف حديث مشتملة على ألف مثل من كلام النبي ﷺ فما يخص الأسد من ذلك أنهم قالوا: «أكرم من الأسد» «٢» «وأبخر من الأسد» «٣» وأكبر من الأسد و«أشجع من الأسد» «٤» و«أجرأ من الأسد» «٥» . وضربوا المثل بالخوف من الأسد. قال مجنون ليلى «٦» واسمه عامر بن قيس على خلاف فيه:
يقولون لي يوما وقد جئت حيهم ... وفي باطني نار يشب لهيبها «٧»
1 / 19
أما تختشي من أسدنا فأجبتهم ... هوى كل نفس أين حل حبيبها
وضربوا المثل أيضا بأسد الشرى وهو طريق بسلمى كثيرة الأسد، قال الفرزدق «١»:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يشتبيلها «٢»
قيل: معنى يشتبيلها: يأخذ أولادها وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك، في أيام أبيه، طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك، لكثرة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشأم، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم، وكان من أجمل الناس وجها، وأطيبهم أرجا فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشأم، وكان الفرزدق حاضرا فقال أنا أعرفه: فقال الشامي من هو يا أبا الفوارس؟ فقال «٣» الفرزدق:
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقيّ الطاهر العلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الهدى من نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا
الله شرّفه قدما وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا اقترحوا ... حلوا الشمائل يحلو عنده نعم
ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغيابة والإملاق والعدم
1 / 20
من معشر حبهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهمو قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
مقدم بعد ذكر الله ذكرهمو ... في كل بدء ومختوم به الكلم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فغضب هشام على الفرزدق، وأمر بحبسه، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردّهاد وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء؛ فأرسل إليه زين العابدين وقال له: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده، والله ﷿ يعلم نيتك ويثيبك عليها فشكر الله لك سعيك، فلما بلغته الرسالة قبلها.
والفرزدق، اسمه همام بن غالب، والفرزدق لقب غلب عليه، والفرزدق قطع العجين، الواحدة فرزدقة وإنما لقب به لأنه أصابه جدري وبرىء منه فبقي وجهه جهما محمرا منتفخا، وقيل لقب به لغلظه وقصره. وقال ابن خلكان ومحمد بن سفيان: أحد أجداد الفرزدق هو أحد الثلاثة الذي سموا بمحمد في الجاهلية، فإنه لا يعرف أحد سمي بهذا الإسم قبله ﷺ إلّا ثلاثة كان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي ﷺ وباسمه، وكان كل منهم قد خلف زوجته حاملا، فنذر كل منهم إن ولد له ذكر، أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك. وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق، والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبد المطلب لأمه، والآخر محمد بن حمران بن ربيعة وأما أحمد فلم يتسم به أحد قبله ﷺ.
فائدة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال «١»: «لما حمل نوح ﵇، في السفينة، من كل زوجين اثنين، قال له أصحابه: وكيف نطمئن أو تطمئن مواشينا ومعنا الأسد؟. فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض، فهو لا يزال محموما. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا وشرابنا ومتاعنا، فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها» . وهذا مرسل.
وفي الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال لما أمر نوح ﵇، أن يحمل من كل زوجين اثنين قال يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق «٢» والذئب؟ وكيف
1 / 21
أصنع بالحمام والثعلب؟ فأوحى الله تعالى إليه: «من ألقى بينهم العداوة؟ فقال: أنت يا رب. قال ﷿ فإني أؤلف بينهم فلا يتضررون» .
الخواص: قال عبد الملك بن زهير، صاحب الخواص المجربة: من لطخ بشحم الأسد جميع بدنه، هربت منه السباع، ولم ينله منها مكروه، وصوته يقتل التماسيح إذا سمعته ومرارة الذكر منه تحل المعقود عن النساء، إذا سقي منها في بيضة في مستهل الشهر، ومن علق عليه قطعة من جلده بشعرها أبرأته من الصرع، قبل البلوغ، فإن كان الصرع قد أصابه بعده، لم تنفعه. وإذا أحرق من شعره في مكان، هربت منه سائر السباع، ولحمه ينفع من الفالج وإذا وضعت قطعة من جلده، في صندوق مع ثياب، لم يصبها السوس ولا الأرضة، وسنه إذا استصحبها إنسان معه، أمن من وجع الأسنان، وشحمه إذا طلي به اليدان والرجلان، أمنت من مضرة البرد وإذا طلي به البدن لم يقر به القمل وذنبه إذا استصحبه إنسان لا تؤثر فيه حيلة محتال، وقال هرمس:
الجلوس على جلد الأسد يذهب البواسير والنقرس. قال: ومن أخذ من شحم جبهته وذوبه بدهن ورد، ومسح به وجهه، هابه الملوك وجميع الناس. وقال الطبري: الاكتحال بمرارة الأسد يحد البصر. قال: ومرارة الأسد إذا سقي منها وزن دانق لليرقان، بماء برز قطونا ونعنع نفع نفعا بينا وخصيته إذا ملحت ببورق أحمر ومصطكى، وجفّفت وسحقت، وخلطت بسويق وشربت، نفعت من جميع الأوجاع التي في الجوف مثل المغص والقولنج والبواسير والزحير ووجع الأرحام، وتشرب بماء حار على الريق. ودماغ الأسد يداف بزيت عتيق، ويدهن به الاختلاج والارتعاش، يذهبهما ومن دهن وجهه، وجميع بدنه بشحم الأسد، ذهب عنه الكسل والكلف وكل عيب يكون في الوجه. وزبله إذا جفف وخلط به الدلوك الذي يتدلك به، نفع من البهق الظاهر، وهو نافع لذلك جدا. وإن سقي منه أي من زبله إنسان لا يصبر عن الخمر ولا يعلم به وزن دانق، ابغضه حتى لا يشربه ولا يشتهي أن يراه ومرارته تداف بالعسل، ويجعل منها على الخنازير تزول.
وشحمه إذا دق بالثوم وطلى به إنسان جسده لم تقربه السباع والله أعلم.
التعبير: الأسد في المنام سلطان شديد البطش والبأس، ظالم غاشم مجاهر، متسلط بجرأته، لا يأمنه صديق ولا عدو، ويعبر أيضا بعدو مسلط، وربما دل على الموت، لأنه يقبض الأرواح، وربما دلت رؤيته على عافية المريض، فمن رأى أسدا من حيث لا يراه وهرب منه الرائي، فإنه ينجو مما يخاف، وينال حكما وعلما، لقوله «١»: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
. فإن كان قد استقبله وهرب منه، نال هما من ذي سلطان، ثم ينجو من الهلاك والمرض. ومن رأى أن أسدا صرعه ولم يقتله، فإنه يحم حمى دائمة لأن الأسد لا تفارقه الحمى كما تقدم أو يسجن، لأن الحمى سجن المؤمن، وربما دلت مصارعته على المرض.
ومن رأى أنه أخذ شيئا من شعره أو عظمه أو لحمه، نال مالا من سلطان، أو من عدوّ. ومن رأى أنه ركب أسدا وهو يخافه، فإنه يقع في بلية، فإن كان لا يخافه قهر عدوّا فإن ضاجعه وهو لا يخافه أمن من عدوّه. ومن رأى أسدا يثب على الناس، فإن السلطان يظلم رعيته. ومن رأى أنه أكل
1 / 22