وعلى ذلك فليس كمال العالم المتخيل كمالا مطلقا، بل هو كمال نسبي، هو كمال بالنسبة للإنسان، وفضلا عن ذلك فإن قيمة ذلك العالم الأمثل هي في مجرد تخيله لا في تطبيقه تطبيقا عمليا، ولو كان كماله في تطبيقه وتنفيذه لانقلب واقعا لا مثلا أعلى، ولأصبح نثرا بعد أن كان شعرا؛ ذلك لأن الأحلام لا يزيد من سحرها أن تتحقق، فلا الخير يزيد في خيريته، والجمال يزيد في جماله بأن نخرج ذلك العالم المتخيل بخيره وجماله من عالم العقل إلى عالم الواقع، لا، بل لعل الفكرة تكون أنقى، وهي في عالم الجوهر الخالص منها، وهي في عالم الواقع؛ لأنها عندئذ تكون صفاء لا تكدره غشاوة النقص التي لا بد أن تغشي حوادث العالم الطبيعي، فلماذا لا نكتفي بأن تطمح الروح إلى ذلك العالم الخيالي، فترسم لنفسها صورتها المثلى، بل ولها أن تتصور كذلك أن ذلك المثل الأعلى قد تحول إلى عالم حقيقي واقع؟ إنها إن فعلت كان لها بذلك عالم هو بعينه العالم الذي يحاول الشعر كما يحاول الدين أن يرسمه، وماذا يصنع الشاعر سوى أن يصور لنفسه جمالا هو أصفى وأنقى من أي جمال على هذه الأرض؟ وماذا يصنع الدين سوى أن يصور خيرا هو أعظم وأسمى من كل خير في هذه الدنيا؟ الشاعر يصور لنفسه جمالا كاملا في صورة يخلقها بخياله، والشعور الديني يصور لنفسه خيرا كاملا في إله يعبده، لكننا لا ينبغي لنا أبدا أن ننسى أن صورة الجمال في الشعر، وصورة الخير في الدين إن هي إلا صور في عالم الخيال لا عالم الحقيقة؛ لأن مادة الطبيعة لا تسعف أمثال هذه الصورة الخيالية بوسائل الظهور العيني والتحقيق الفعلي؛ ولذلك فستظل هذه المثل العليا الخيالية رموزا نهتدي بهديها لا عناصر من عناصر الواقع الذي نعامله في حياتنا اليومية، نعم إن أمثال هذه الصور الخيالية لتغذي نفوسنا، وتزيد من خصوبة حياتنا، لكننا إن زعمنا لأنفسنا أنها موجودات حقيقية، فعندئذ نحط من شأن القيم العليا التي جاءت تلك الرموز الخيالية لترمز إليها، ويصبح الأمر خرافة وتخريفا بعد أن كان مثلا أعلى واهتداء بصيرا.
ومع ذلك فإنا نلاحظ أن الفلسفة والدين كليهما لا ينفكان يحطان من شأن هذه القيم العليا بأن يحاولا خلط المثل العليا بالواقع، إنهما بذلك يحولان الشعر نثرا والحلم حقيقة، إنهما لا يرضيان بأن يجعلا من الله رمزا صافيا في خيال الإنسان، وصورة للخير الكامل كما صورته الروح، ويصران على أن يلقيا به في مضطرب الحياة اليومية بأوشابها ونقائصها؛ وذلك بأن يجعلاه كائنا متعينا وشخصا حيا، إنهما بذلك ولا شك يحولانه من روح إلى مادة، لكنهما يغطيان هذا الخزي منهما بمجرد اللفظ الأجوف حين يقولان إنهما يتحدثان عن وجود روحاني حين يتحدثان عن الله، إنهما لا يفرقان في حديثهما هذا بين ما هو جوهري وما هو عرضي من الأمور؛ لأن جوهر ما يؤديان بصنيعهما - رغم كل ما يزعمانه - هو أنهما قد هبطا بالإله من عالم الوجود الضمني - الوجود العقلي - إلى عالم الوجود العيني - الوجود الفعلي - فنزلا به من مرتبة المثل الأعلى إلى مرتبة الواقع، والعجيب أنهما لا ينكران ذلك، بل يزهوان بما يصنعان.
12
وها هنا يأتي دور العقل الإنساني وما يصنعه بذكائه، فمن مهامه أن يزيل عنا هذا الخلط بأن يهدينا إلى الصواب، والصواب هو أن نفرق بين القيم المختلفة ولا نجعلها جميعا من صنف واحد وطراز واحد، فقيمة «الحق» إنما تتجسد في عالم الطبيعة، فما هو «حقيقي» موجود وجودا فعليا، لكن ما كذلك قيمتا الخير والجمال، فهاتان قيمتان من عالم الروح لا من عالم الطبيعة المتحقق؛ إذ الخير والجمال كلاهما تصوران يتصورهما الإنسان بخياله ليرسم مثلا أعلى يستريح له في أحلامه ما داما لا يتحققان في دنيا الواقع، إن الإنسان لتتم راحته النفسية من حيث الخير والجمال إذا هو جعلهما موضوع تأمل وتفلسف، لكن راحته النفسية من حيث الحق لا تتم إلا إذا وجد الحق متمثلا في الواقع، وهكذا ترى أن ما يكفي في حالة الخير والجمال لا يكفي في حالة الحق، والعكس صحيح، فلماذا إذن تتطلب من الخير والجمال أن يغيرا من طبيعتيهما ليصبحا واقعا من الواقع كأنما يراد بهما أن ينقلبا «حقا» بعد أن كانا «خيرا» و«جمالا»، وكذلك كما أن الخير ليس حقا، والجمال ليس حقا، فالخير والجمال معا وإن اتفقا في كونهما معا مما تتعلق به الأوهام والأحلام دون الواقع، إلا أنهما يختلفان اختلافا بعيدا بعد ذلك؛ ولهذا كان من العبث والخلط وسوء الفهم أن تتطلب من «الجميل» أن يكون كذلك «خيرا» أو من «الخير» أن يكون كذلك «جميلا»، وما أكثر ما نرى الفنان - وهو الذي يصور الجمال - على خلاف شديد مع الأخلاقي، فترى هذا ينقد ذاك بأن فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيرد الفنان - وهو على حق - بأنه لا شأن له في فنه بالفضيلة، وكذلك قل فيما ينشب من خلاف بين «الحق» الذي تنشده العلوم، وبين الفضيلة التي يريدها الأخلاقيون، فترى هؤلاء يتهمون العلم في بعض نتائجه بأنه هادم للأخلاق، لكن العالم قد يجيب - وهو على حق - بأنه لا شأن له في بحثه العلمي بالفضيلة، وهكذا ترى كيف تفترق هذه القيم الثلاث، ويجب أن تفترق؛ لأنها مختلفة الأصول، ومن الخلط توحيدها وإهمال ما بينها من فروق.
لكن الإنسان بعقله لا بد له - من جهة أخرى - أن يتبين كذلك أنه على ما بين عالم الجوهر وعالم الخبرة الفعلية من فوارق، فهما قد ينطبقان في بعض النواحي، بحيث يتحقق أحدهما في الآخر، وعندئذ يتبين أنه لا استحالة - كما أنه لا ضرورة - في أن تكون دنيانا دنيا حق ودنيا خير ودنيا جمال في آن معا، ليس مستحيلا، كما أنه ليس ضروريا، على هذا العالم الذي نعيش فيه أن يحقق جزءا من أمانينا في الخير والجمال، وإن كنا لا نقصر خيالنا على الحدود التي يحققها لنا عالم الواقع من هاتين القيمتين، بل نمده إلى حيث عالم الجوهر، وهو عالم الممكنات، لنجد فيه بقية ما يشبع فينا المثل الأعلى.
أسمى ما يسمو إليه العقل في أدائه لمهمته هو أن يحقق الاتساق والانسجام بين الأجزاء المختلفة في خبرته من حيث إيجاد التعادل والتوازن بين القيم المختلفة، وذلك بأن يستحضر أمام الفكر أكبر عدد ممكن من ممكنات عالم الجوهر، دون أن يقع بينها تعارض وتناقض، فها هو ذا عالم الطبيعة قد حقق بعض تلك الممكنات دون بعضها الآخر، لكن حتى في هذا الجانب الذي حققه قد لا يخلو فيه الأمر من متناقضات ومفارقات، وسمو العقل هو في أن يسمو بخياله ويعلو، بحيث يضيف إلى فكره - فوق ذلك الذي حققته دنيا الطبيعة المادية - أفكارا أخرى، وأن يذيب من المجموعة كلها التي اجتمعت له كل ما بينها من دواعي التعارض، وبمقدار ما يوفق في تجميع عدد كبير من الأفكار - الممكن منها والمتحقق - وفي تنسيق ما تجمع لديه تنسيقا يجعله وحدة متناغمة، تكون منزلته من السمو، فتراه - مثلا - يوفق بين الدين والفلسفة والعلم، بأن يجعل الدين والفلسفة ضربين من ضروب الشعر، لا وسيلتين من وسائل الوصف العلمي لما هو واقع؛ ولذلك فهما لا يصلحان لتفسير العالم تفسيرا صحيحا، لكن ذلك بالطبع لا يعني الحط من شأنهما، إنما يعني تحديد مجاليهما، وما مجالاهما إلا رسم المثل العليا التي يحلم بها الإنسان ولا يجدها متحققة في العالم الواقع، فإن يكونا غير قائمين على أساس يجعلهما من العلوم، فهما قائمان على أساس آخر يدخلهما في مجال الشعر الرفيع، والعاقل هو من لا يتخذ من إخفاقهما في مجال سببا لانتقاص ما لهما من قدر كبير في مجال آخر، وكذلك قل في التفسير العلمي الذي يفسر العالم تفسيرا صحيحا، لكنه لا يتمشى مع مثل الإنسان الأعلى في الأخلاق، فلا يجوز أن يتخذ هذا النقص الخلقي فيه سببا للحط من شأنه في مجال التفسير العلمي الصحيح.
13
تلك خلاصة لفلسفة «سانتايانا» - وهو فيلسوف أمريكي بالإقامة والإنتاج، وإن لم يكن أمريكيا بالمولد والجنسية - هي خلاصة كتابيه العظيمين «حياة العقل»
14 (1905-1906م) و«عوالم الوجود»
15 (1927-1940م) مضافا إلى هذا الأخير مقدمته التي خرجت في كتاب مستقل هو «التشكك والإيمان الحيواني»
صفحة غير معروفة