عنها يقول في مقدمته التي يقدم بها كتابه «معنى الحق»
7
ما يأتي: «تتألف التجريبية المتطرفة أولا من مصادرة، ثم من حقيقة أقررها، وأخيرا من نتيجة عامة.»
8
أما المصادرة (والمقصود بكلمة «مصادرة» فرض يفرضه الباحث ويصدر به بحثه ويطالب القارئ بأن يسلم بصحته؛ فهي في ذلك شبيهة بالبديهية) فهي أن كل مناقشة فلسفية يجب أن تنحصر في موضوعات مما يقع في الخبرة البشرية، قد يكون في الكون ما لا يقع للناس في خبراتهم، لكن حديثنا عنه عندئذ يصبح بغير معنى، إن «جيمس» لا يدعي أن وجود الشيء متوقف على خبرتنا به، لكن الذي يدعيه هو أن الشيء لا يكون مفهوما لنا، وذا دلالة في حديثنا عنه، إلا إذا كان جزءا فعليا أو ممكنا من أجزاء الخبرة الإنسانية.
تلك هي «المصادرة» التي لو وقف عندها لكان على اتفاق مع التجريبية الإنجليزية؛ لأن رجال هذه المدرسة - لوك وباركلي وهيوم - هم أيضا يرون أن ما يستطاع معرفته هو وحده الذي يقع في حدود خبرات الإنسان، وعبثا نتحدث إذا لم يكن حديثنا عن شيء خبرناه فعلا، أو كان في الإمكان أن نخبره، لكن «جيمس» لا يقف عند حدود هذه المصادرة وحدها، بل يمضي فيقرر حقيقة هي التي ميزت تجريبيته وجعلتها تجريبية «متطرفة» - كما أسماها - وهي أننا حين ندرك أشياء العالم بالخبرة المباشرة، فإنما ندرك الأشياء وما يربطها من علاقات، فالعلاقات القائمة بين الأشياء هي - كالأشياء نفسها - مما ندركه في عناصر الموقف الذي يتاح لنا أن ندركه، وليست هي - كما كان الظن - من صناعة عقولنا،
9
كلا ولا هي شيء خارج عن طبيعة الموقف جاءه من أعلى، بل هي جزء منه لا يتجزأ، يدركه الإنسان إذ يدرك الموقف بكل ما فيه من عناصر؛ أشياء وعلاقات، والقارئ الذي لم يألف مشكلة العلاقات في الفلسفة قد لا يقدر خطورة هذه الحقيقة التي يقررها «جيمس »؛ إذ يقرر أن «العلاقات» تدرك في الخبرة المباشرة كالأشياء المرتبطة بتلك العلاقات سواء بسواء، ولكي أعينه على تقدير هذه الحقيقة أستطرد فأقول : إن الفلاسفة ينقسمون قسمين رئيسيين؛ المثاليون من جهة، والواقعيون من جهة أخرى، أما المثاليون فهم الذين يجعلون حقائق الأشياء في كونها أفكارا في عقولنا، أي إن الشيء المعين موجود إذا كان له فكرة في رأسي، وإلا فلا وجود له، وإن كان الأمر كذلك، فمجموعة الأشياء - أي الكون كله - هي بالتالي مجموعة أفكار في عقل الإنسان أو في عقل الله، فكيف تكون العلاقات بين الأفكار؟ إنها ليست علاقات مكانية؛ فالفكرة لا تكون على يمين الفكرة أو على يسارها - مثلا - لكن العلاقات بين الأفكار تكون في تضمن بعضها لبعض، والاستدلال على بعضها من بعضها الآخر وهكذا، وبهذا تكون مجموعة الأفكار بمثابة نسق واحد أو بناء واحد، تستطيع من كل فكرة أن تعلم فكرة أخرى؛ لأنها نتيجة تلزم عنها، أو لأنها مقدمة تقتضيها، وهكذا تظل تنتقل من فكرة إلى فكرة بالاستدلال وحده، حتى يكتمل لك النسق كله، إذن فمن فكرة واحدة - أي فكرة شئت - تستطيع أن تستدل على سائر الأفكار جميعا، الأمر في ذلك كالأمر في نظريات الهندسة - مثلا - حيث تستطيع من أي نظرية شئت أن ترجع قافلا إلى مقدماتها أو تتقدم سائرا إلى نتائجها حتى يكتمل لك البناء كله، فكأن كل نظرية واحدة تحمل في جوفها مجموعة النظريات، بعضها كامن فيها؛ لأنه مقدماتها، وبعضها الآخر كامن فيها أيضا؛ لأنه نتائجها، وفي مثل هذه الحالة لا بد أن يكون النسق كله وحدة واحدة، علاقة الكل بأجزائه هي علاقة الكائن العضوي بأجزائه ... وما شأن «العلاقات» بهذا كله؟ شأنها هو أن المثاليين - بناء على رأيهم هذا - يجعلون العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض أجزاء من طبيعة الأشياء نفسها، داخلية فيها وليست تأتيها من الخارج لتربط شيئا بشيء؛ لأن علاقة الشيء الواحد بسائر الأشياء هي نفسها جزء متمم لطبيعة ذلك الشيء، ولولاه لما عرفت حقيقته كلها، فمثلا إذا قيل لك عن «أ» إنه والد «ب» فأين ترى علاقة «والد» هذه التي تربط الشخصين «أ» و«ب»؟ عند المثاليين أن هذه العلاقة تراها بتحليل طبيعة «أ» وحقيقته ، وعندئذ ستجد أن جزءا من تلك الحقيقة أنه «والد»، فالعلاقة إذن داخلية فيه، وليست جزءا من المشاهدة التي تأتي عن طريق الحواس.
وأما الواقعيون فيرون رأيا غير هذا؛ إذ يرون أن الأشياء التي ندركها موجودة وجودا خارجيا مستقلا عن عقولنا وما فيها من أفكار؛ فهي موجودة سواء صادفها العقل الذي يدركها أو لم يصادفها، وإذا كان الأمر كذلك، فعلمي بها متوقف على ما أشاهده منها، لا على استدلال عقلي، فإذا رأيت شيئا يقع قبل شيء، قلت إنه وقع قبله؛ لأني شاهدته هكذا، لا لأني وجدت الأول يستتبع بالضرورة حدوث الثاني كنتيجة له، ولما كان العالم يأتي في التجربة الحسية أشياء مختلفة كثيرة مرتبطة بعلاقات مختلفة كثيرة كذلك، وجب أن أقول: إنه عالم «متعدد»، وليس هو بالوحدة الواحدة كما يظن المثاليون، وأن هذا التعدد لا يكون الجزء منه دالا على الجزء الآخر دلالة حتمية كما يظن المثاليون أيضا، بل الأمر موكول إلى الخبرة، فإن وجدت جزءين متلازمين قلت إنهما كذلك، وإلا فلا أستدل على وجود الواحد من وجود الآخر ... وما شأن «العلاقات» وإدراكها بذلك؟ شأنها هو أن الخبرة الحسية - كما يقول التجريبيون - تأتي في الحقيقة مفككة إلى الذهن، والذي يربطها بعضها ببعض هو الإنسان المدرك، يربطها على مقتضى قوانين يسمونها قوانين تداعي الأفكار أو ترابطها.
فإذا ما جاء «جيمس» ليقول: إن الإنسان يدرك العلاقات إدراكا مباشرا مع الأشياء نفسها المرتبطة بتلك العلاقات، يكون قد سار بتجريبيته خطوة أخرى بعد التجريبية الإنجليزية التي قصرت المشاهدة على «الحالات» المتقطعة المتجزئة وحدها، ثم جعلت العلاقات التي تربطها تتم في الداخل ولا تأتي مع بقية المدركات من خارج - ومن ثم كانت تجريبية «جيمس» تجريبية «متطرفة» - وبعد هذه الحقيقة التي يقررها عن العلاقات، تجيء النتيجة التي ينتزعها منها، وهي أن العالم هو ما يجيء في الخبرة، وليس هنالك ما يدعو إلى إضافة شيء من عندي لبنائه أو تدعيمه، يجيئني العالم في خبرتي قائما في بنائه مدعما بروابطه، إذ يجيئني بعنصريه؛ الأشياء والعلاقات التي تربط تلك الأشياء في وقائع؛ فقد كانت مسألة العلاقات هي نقطة الضعف في التجريبية الإنجليزية التقليدية؛ ولذلك كانت أيسر نقطة يهاجمها منها أنصار الفلسفة المثالية؛ إذ كانت هذه الفلسفة تسأل المذهب التجريبي قائلة: إذا كان الإدراك أمره أمر حالات تأتي متقطعة عن طريق الحواس المختلفة، فما الذي يوجد العلاقات بين أجزائه؟ هذا مصباح على منضدة - مثلا - وهكذا أراه مرتبطا بالمنضدة بعلاقة «على»، لكن العين لا ترى «على»، بل ترى «مصباحا - منضدة»، فكيف وبأي الوسائل أدرك «على» التي ليست بين المحسوسات؟ أقول: إن هذه كانت أيسر نقطة للهجوم على المذهب التجريبي من جماعة المثاليين الذين ينكرون الكثرة، وينكرون خارجية الأشياء، فجاء «جيمس» واعترف للمثاليين بوجاهة نقدهم وصوابه، لكنه أعاد بناء المذهب التجريبي نفسه ليقابل هذا النقد، بأن جعل العلاقات جزءا يدرك بالخبرة المباشرة كأي جزء آخر، وبهذا أصبحت التجريبية مذهبا أوفى وأكمل وأقدر على مواجهة الهجوم.
صفحة غير معروفة