3
والمثالية المطلقة
على أن فيلسوف المثالية غير منازع في أمريكا، بل قد يكون فيلسوف المثالية الأول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إطلاقا، هو «جوزيا رويس» (1835-1916م) الذي كان أستاذا للفلسفة في «هارفارد» ونزع نحو المثالية عن دراسة دقيقة عميقة، ثم أنتج فيها عن أصالة وابتكار، ولئن كان «باون» قد جعل اهتمامه الأول بالذات الفردية، فقد أدار «رويس» فلسفته حول «الذات المطلقة» التي تستغرق الذوات الفردية كلها، بل تستغرق الوجود كله في وجودها؛ فهو يذهب إلى أن «الكون بأسره، بما في ذلك عالم الطبيعة، هو في حقيقته كائن حي واحد، هو عقل أو هو روح واحد عظيم»
4
وليس في هذا القول - من وجهة نظره - شطح في الخيال، بل هو النتيجة المحتومة للتفكير الدقيق فيما تنطوي عليه وقائع الخبرة البشرية، والفروض التي يبني عليها العلم بناءه، ويطلق «رويس» على هذا الروح الواحد العظيم أسماء مختلفة؛ فهو «الله» وهو «المطلق» وهو «مفسر العالم» وهو «اللوغوس (أو الكلمة)» وغير ذلك من الأسماء، وبديهي أن فيلسوفا يرى أن قوام الكون عقل محيط بكل شيء، أو نفس كبرى شاملة، يبدأ بحثه عن ذلك العقل الأكبر بالنظر إلى ما يشبهه في تكوين الإنسان، أي إنه يبدأ بحثه بالنظر إلى ذات الإنسان الشاعرة، أو عقله، أو روحه، أو نفسه، أو ما شئت من الأسماء التي تطلق على ما ليس بجسد في تكوين الإنسان.
إن الإنسان ليعتمد في ذاته الشاعرة على الذاكرة وعلى الخيال، لكي يجعل من تلك الذات كائنا واحدا رغم تعدد خبراتها، فلولا الذاكرة لما استطاع الإنسان أن يحتفظ بشيء من ماضيه، ولا نحصر وجوده الشعوري في إدراك اللحظة الحاضرة الراهنة، ولما كان الإدراك الراهن يتغير لحظة بعد لحظة ؛ فهو إذن - لو اقتصر على الإدراك الحاضر وحده - إنسان جديد في كل لحظة زمنية، ولا يكون بين حالاته المتتابعة خيط يربطها، يربط الماضي بالحاضر، ليكون من السلسلة إنسانا واحدا بعينه وذاته، كذلك إذا لم يستطع الإنسان أن يفرق بين ما يتخيله وبين إدراكه الحسي الحاضر لاستحال عليه الإدراك والسلوك؛ إذ لو كان لا فرق عندي بين غرفة - مثلا - أتخيلها وغرفة أراها فعلا وأجلس فيها، لما عرفت كيف أتصرف إزاء الأشياء تصرفا يحفظ لي ذاتيتي العاقلة، فلولا القدرة على التخيل لانحصر الإنسان في لحظته الراهنة - كما هي الحال في الذاكرة - فأنا أدرك ما أدركه الآن من أشياء العالم الخارجي، ثم أدخره بالذاكرة، ثم أستعيده تخيلا، وبذلك تتكون خبرتي على مر الأيام، وبغير ادخار الخبرة الماضية واستعادتها تخيلا، لما زادت معرفة الإنسان عما يراه في اللحظة الراهنة وحدها.
لكن هذه الذاكرة وهذا الخيال - وضرورتهما للحياة العقلية ضرورة محتومة كما رأيت - يجاوزان الحس الراهن، وبذلك تتكون في الشيء الذي أدركه إدراكا حسيا وحدة ما كانت لتتكون لولاهما، فلولا أنني بالذاكرة احتفظت بصورة مكتبي هذا كما رأيته أمس، وبالخيال أتصور هذا الذي رأيته، لما استطعت حين أرى مكتبي نفسه الآن أن أقول: إنه هو هو الشيء الذي رأيته بالأمس، وبفضل الذاكرة والخيال أيضا تتكون وحدة الذات العارفة - كما تكونت وحدة الشيء المعروف - لأنه لولاهما أيضا لكان إدراك كل لحظة زمنية قائما وحده لا يرتبط بإدراك الماضي، وبذلك ينفرط عقد الخبرة، بل لا يبقى منها أبدا إلا حالة واحدة، هي حالة اللحظة الراهنة، ولنا أن نسأل الآن: ما طبيعة هذا الرباط الذي يربط ذاتي العارفة الشاعرة في وحدة واحدة، ويربط الشيء المعروف كذلك في وحدة واحدة؟ أهو كائن داخلي غيبي قائم في جوفي؟ كلا، هكذا يجيب «رويس»، إنما هو نوع من العلاقات بين أجزاء الخبرة، يجعلها إذا ما ارتبطت على هذا النحو، ذاتا شاعرة بذاتيتها ووحدتها واتصال وجودها.
هذه العلاقات نفسها التي تصل أجزاء الخبرة بعضها ببعض بحيث تجعل منها نسقا واحدا هي ما نسميه في الإنسان الفرد بالذات أو العقل أو الروح، ولأضرب مثلا يوضح الفكرة للقارئ، فأقول: إذا رصصت كرات صغيرة من الحجر على هيئة دائرة، ثم سألت نفسك: ما الذي جعل من هذه الكرات الكثيرة دائرة؟ أهناك - إلى جانب الأحجار - دائرة، أم أن الدائرة هي نفسها الكرات، تكونت حين ارتبطت الكرات بعلاقات من طراز معين؟ هكذا قل في «الذات»، فليست هي شيئا مستقلا عن أجزاء الخبرة التي تأتي فرادى، بل هي العلاقات التي ترتبط بها تلك الأجزاء على صورة معينة؛ بحيث يتألف منها نسق فريد يكون من طبيعته أن يشعر بنفسه، وليس الأمر في هذا مقصورا على ذات الإنسان الفرد، بل هو كذلك الأمر في الذات المطلقة - أو الله - فالله ذات أو عقل أو روح؛ لأن هنالك بين عناصر الكون الأكبر علاقات من نفس الطراز، تجعل ذلك الكون الأكبر وحدة واحدة شاعرة بنفسها، فالنسبة بين كل فرد منا وبين الذات المطلقة هي نفسها النسبة بين خبرة اللحظة الواحدة في حياة الفرد الواحد، وبين مجموعة خبراته التي يتصل بعضها ببعض على نحو يجعل منها ذاتا واحدة، الكون كله عقل واحد كبير شامل؛ لأن أجزاءه تكون نسقا، كما أن الإنسان الفرد ذات واحدة؛ لأن أجزاء خبرته تكون نسقا، وكما أن الذات الإنسانية هي على هذا الاعتبار «مجتمع» من أجزاء مرتبطة على هذه الصورة النسقية الفريدة، فكذلك الله «مجتمع» قوامه أجزاء الكون كلها، وقد اتسقت أيضا على نمط فريد.
لكن الذات الإنسانية على وحدانيتها، تفرق في نفسها بين الذات التي تعرف والذات التي تعمل، والبحث في هذين الجانبين منها هو موضوع أول كتاب كتبه «رويس»، وهو الكتاب الذي أطلق عليه اسم «الجانب الديني من الفلسفة»،
5
صفحة غير معروفة