وكان في بروكسل سنة 1803 يوم أصابته علة الصدر وبصق دما، فبعث في الحال من جاءه بكورفيزار الذي لم تخف على ذكائه أسباب الداء، ولكنه أبى أن يخيف مريضه بذكر تشخيصه، واكتفى بالقول: إنه فساد في الدم يمكن إخراجه بوضع محرقة على الصدر، وقد استفاد نابوليون من علاج الطبيب فوقف بصق الدم، وخف السعال، وزال ضيق الصدر، فصار كورفيزار منذ ذلك الحين طبيبه الخاص، وموضع ثقته المغمور بالمكافآت.
وقد أحجم كثيرا قبل دعوة كورفيزار، ولولا إلحاح كاتم سره لما فعل، وقد قص هذا الأخير كيف تم ذلك، فإنه كان في مالميزون يشتغل إلى جانب بونابرت فلاحظ غير مرة أن سيده كان يصفر فجأة عند انتصاف الليل، وينحني على الكرسي ويفك أزرار صدرته ويتنهد تنهدا أليما، فيقوم ويرافقه إلى غرفة النوم وهو مستند إلى ذراعه، وقد مضى ستة أشهر على هذه الحالة، وكلما فاتح سكرتيره بأمر التداوي ومن يختار طبيبا كان الجواب كورفيزار.
ومن تأبين ديبواترن الذي لفظه على قبر زميله نرى أن الصفات التي فتحت لكورفيزار طريقا إلى قلب نابوليون كانت سرعة الخاطر، والتدقيق، وحرية الفكر، وقد استطاع الطبيب أن يحفظ كرامته أمام الرجل الذي لم يترك لأحد كرامته، وقد قيل إنه وهو سائر إلى مالميزون كان يردد في نفسه: «لا أعلم أي ربح أجنيه من هذه الزيارة، ولكني متأكد أنني سأخسر حريتي»، ولقد أخطأ ظنه؛ فإنه لم يكن أبدا عبدا لذلك السيد الذي كان يسامحه على الكثير إكراما لعلمه وإخلاصه.
والذي وافق نابوليون بوجه خاص أن كورفيزار كان يتكل على الطبيعة أكثر مما يتكل على الأدوية، ولا سيما لأن الطب في نظر نابوليون كان علم احتياط لا علم تدقيق، وكان يعترف بفائدة الهيجين أي علم الصحة، وله فيه آراء خاصة.
وكان يستيقظ مبكرا فيأمر حالا بتجديد هواء الغرفة، ثم يتناول كأسا من الشاي أو ماء زهر الليمون ويسرع بالحلاقة لنفسه، وقد اضطر إلى هذه العادة لأنه لم يجد بين المزينين من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة نظرا لما كان عليه من ضيق الصدر وقلة الصبر، فكانت تساوره حركات عصبية لا يأمن معها المزين من أن يجرحه مرارا، ومن الغريب أنه لم يكن يستعمل إلا صابونا إنكليزيا وموسى إنكليزية، ويتعجب من إمكان الحلاقة بغيرهما، وقد اشتهر بالصرامة في معاقبة التهريب حتى إنه كان يحرق كل سنة ما يساوي الألوف من البضائع الإنكليزية المهربة، ولكنه رضي لنفسه بالشذوذ حتى إنه كان يدفع ثمن الموسى جنيهين وهي تساوي ربع القيمة.
وكان مملوكه رستم يمسك له المرآة أثناء الحلاقة، حتى إذا انتهى وآن أوان الاستحمام بالماء الساخن، لبث في الحمام زمنا طويلا يسمع في خلاله من سكرتيره قراءة الجرائد والتلغرافات، وقد يطول الوقت نحو الساعتين غير مبال بإذن الطبيب فاتحا حنفية الماء الساخن إلى أن يتصاعد البخار ويملأ الغرفة، ويحول دون القراءة، فيضطر السكرتير إلى فتح الباب، وكان ولعه بالاستحمام شديدا إلى درجة أنه يستيقظ أحيانا في نصف الليل فينهض حالا إلى الماء، ومن أجل هذا كان يعد له الحمام أين ذهب دون نظر للمكان ولا الزمان، ولما ولدت ماري لويز جاءته البشرى وهو في الحمام.
وكان من نتائج هذه المغاطس الساخنة المتكررة أن سمن بدنه شيئا فشيئا، ولكن ذلك لم يمنعه عن المثابرة عليها لاعتقاده أنها تخفف عنه عسر البول الذي شعر به لأول مرة في حملة إيطاليا، وما برح يزداد حتى اشتدت عليه النوبة سنة 1812، كما أنها تقيه شر الإمساك المزمن الذي رافقه منذ الصغر.
وبعد خروجه من الماء كان يفرك بدنه بفرشاة قاسية، ثم يسكب عليه ماء الكولونيا بغزارة، وقد استفاد عادة الفرك هذه من الشرق، ولها عنده منافع جلى.
وكان يدعي أن السر في صحته ومقدرته على احتمال التعب هو إفراطه من آن إلى آن في عكس ما تعود عليه، فكان مثلا يستريح 24 ساعة، أو يمشي ستين ميلا، أو يركض على جواده طول النهار، كما كان يفعل في جزيرة ألب، كأن التعب ضروري لبنيته ولهذا كان يرجع من فتوحاته وحروبه وهو أوفر سمنا وأقوى صحة.
ولا يخفى على الناقد البصير ما في قوله هذا من الحقيقة، فإن الرياضة البدنية تساعد على إفراز الغدد الجلدية وإخراج الفضلات والسموم، ولا سيما في الأجسام المصابة بالأرترتيسم، ذلك ما كان يحمل نابوليون على القول وهو في جزيرة القديسة هيلانة قبل موته بثلاثة أشهر: «آه! لو كان في الإمكان أن أعرق! وأن ينفتح جرحي! فشفائي من وراء ذلك.»
صفحة غير معروفة