كانت العادة إذا مات قريب لطالب أن ينبئوه بذلك تدريجا بعد أن يدعى إلى غرفة خاصة يكون فيها وحده فيتسع له الاستسلام للحزن والبكاء، فلما مات والد بونابرت دعاه الرئيس وأخبره بمصابه، وأشار عليه أن يختلي إلى نفسه في الغرفة المعدة للراحة والتطبيب، فما كان من نابوليون إلا أن أجابه: «لن أذهب، فالبكاء للنساء، أما الرجل فعليه أن يتعلم كيف يتألم، وأنا لم أصل إلى هذه الساعة دون أن أفتكر في الموت وأعود نفسي عليه كما أعودها على الحياة»، ولم تنحدر له دمعة وبقي متتبعا دروسه بهدوء، كأن لم يمت له أحد، وكان يسمي هذا فلسفة.
وخرج نابوليون من المدرسة في أكتوبر سنة 1785 قاصدا فالانس، حيث انفتحت أمامه أبواب البيوتات وأخذت الطبقة الراقية تستقبل بلطف وإعجاب هذا الضابط الشاب الذي يحمل في جيبه شهادة ليوتنان في فرقة المدفعية، ويقال: إنه عندما بلغ قمة مجده سنة 1807 وصله يوما من معلمة الرقص هذه الكلمة: «إن الذي قاد خطواتك الأولى في الصالونات يستنجد كرمك اليوم.»
ويشهد أحد المؤرخين أن فالانس واجتماعاتها كانت له مدرسة كبرى شحذ فيها غرار ذكائه وادخر ذلك الاختبار الواسع وهو الذي يصفه بقوله: كان صغيرا حليقا أصفر، بالغا من النحول حده الأقصى، ضيق الكتفين تحت ثوبه الحربي، تحيط برقبته ربطة معقدة، ويغطي أذنيه شعر رأسه المنبسط، وكان غائر الوجنتين، مطبق الشفتين، حاد النظر، قليل الكلام، وجيز العبارة، أجش الصوت، وكل ملامح وجهه تدل على العناد والعزم وكثرة التفكير وحب الانفراد والنفور من الناس.
وكان يشغل أوقات الفراغ بالقراءة والتأملات، وأحب المؤلفين إليه روسو الذي ترك أثرا في كل ما كتب من 1786 إلى 1793، ولكن كان لهذا الميل والحب حد فسيجيء يوم يقول فيه عن معبوده الفيلسوف: كان خيرا لفرنسا وراحتها ألا يولد هذا الرجل.
الفصل الثالث
فتوة نابوليون
اختلف المؤرخون في تاريخ اليوم الذي غادر فيه الضابط الشاب فالانس إلى ليون، فزعم بعضهم أنه أصيب في هذه المدينة بحمى ألزمته الفراش أياما، وكانت سببا في تعرفه بآنسة من جنيف اسمها أوجيه، وهي التي اهتمت به وأحاطته بعنايتها وعطفها حتى الشفاء، ولكن مفكرات نابوليون لا تذكر شيئا من هذا، بل فيها أنه ترك فالانس قاصدا أجاكسيو في سبتمبر سنة 1786 وعمره يومئذ 17 سنة.
ولدى وصوله ألفى عمه الأرشيدياك تضنيه آلام النقرس، وتبرح به، وقد أعيا داؤه أطباء الجزيرة، فرأى أن يكتب إلى الدكتور تيسو كما مر بك، والدكتور تيسو واسع الشهرة، وهو عضو في الجمعية الملكية وجمعية بال الطبية وجمعية برن الاقتصادية، فليس غريبا أن يتجه نابوليون بأفكاره إليه ويعلق آماله عليه، ولا نعلم أي تأثير ترك في نفس نابوليون إغفال هذا العالم الرد عليه على الرغم مما أولاه من ثناء وتمجيد.
ولشدة الداء امتنع عمه عن العمل بتاتا، فاضطر نابوليون أن يتسلم زمام الإدارة في البيت لأن شقيقه الأكبر كان على سفر إلى بيز، فلم يبق لنابوليون من سبيل إلى ترك أجاكسيو حينئذ، فكتب إلى وزير الحرب يسأله إجازة خمسة أشهر مع حفظ معاشه فأجابه إلى طلبه.
وقد يتعجب القارئ لهذا الغياب المتكرر من المدرسة، ولكنها عادة جرى عليها الجميع من الكولونيل إلى الماجور إلى الليوتنان، وهكذا كان نابوليون يروح ويجيء بين فرنسا وكورسيكا، محتجا بضعفه حينا واعتلال أمه حينا آخر.
صفحة غير معروفة