[الفتاوى الفقهية] [مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ جَامِعِ الشَّتَاتِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ.
وَبَعْدُ: فَقَدِ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ نُبَذٍ مِنْ مُهِمَّاتِ الْفَتَاوِي الَّتِي أَفْتَيْتُ بِهَا عَلَى كَثْرَتِهَا جِدًّا، مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُهِمِّ وَالْعَوِيصِ، وَمَا فِي تَدْوِينِهِ نَفْعٌ وَإِجْدَا، وَتَرَكْتُ غَالِبَ الْوَاضِحَاتِ، وَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَذْهَانِ الْقَادِحَاتِ، وَبَدَأْتُ بِالْفِقْهِيَّاتِ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَبْوَابِ، ثُمَّ بِالتَّفْسِيرِ، ثُمَّ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ بِالْأُصُولِ، ثُمَّ بِالنَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ، ثُمَّ بِسَائِرِ الْفُنُونِ إِفَادَةً لِلطُّلَّابِ، وَسَمَّيْتُ هَذَا الْمَجْمُوعَ: (الْحَاوِي لِلْفَتَاوِي) .
1 / 3
[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]
مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ ﵁ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ: إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ رَائِيهِ: هَذَا مَاءٌ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْأَصْحَابُ هَلْ يُنَافِي قَوْلَ كَثِيرٍ مِنْ شَارِحِي الْمِنْهَاجِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ فَطَهُورٌ إِنَّهُ نَكَّرَ الْمَاءَ لِيَشْمَلَ الطَّهُورَ وَالطَّاهِرَ وَالْمُتَنَجِّسَ حَيْثُ جَعَلَ التَّنْكِيرَ وَالْعُرْيَ عَنِ الْقَيْدِ وَصْفًا لِلْمَاءِ فِي الْأَوَّلِ بِالْإِطْلَاقِ دُونَ الثَّانِي إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ؟.
الْجَوَابُ: إِنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِّ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ: " إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ رَائِيهِ: هَذَا مَاءٌ " رَاجِعٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَإِنَّ الْمَاءَ فِي اللُّغَةِ يَصْدُقُ بِالطَّهُورِ وَبِالطَّاهِرِ وَبِالنَّجِسِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِ التَّنْبِيهِ بَابُ الْمِيَاهِ إِنَّهُ جَمَعَ الْمَاءَ، وَإِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ لَا يُجْمَعُ إِلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ; لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمَاءِ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَتَنَوَّعُ إِلَى طَهُورٍ، وَطَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، وَحَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِدْقُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لُغَةً، وَأَمَّا الضَّابِطُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِّ الْمُطْلَقِ فَإِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْعُرْفِ لِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ، وَالْعُرْفُ لَا يُطْلِقُ الْمَاءَ عَلَى مَا عَدَا الْمُطْلَقَ إِلَّا مُقَيَّدًا، لَا مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ: مَاءٌ نَجِسٌ، أَوْ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ، أَوْ مَاءُ زَعْفَرَانٍ، وَيُؤَكِّدُ كَوْنَهُمْ نَظَرُوا فِي ضَابِطِ الْمُطْلَقِ إِلَى الْعُرْفِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِي سَلْبِهِ عَنِ الْمُتَغَيِّرِ بِالْمُخَالَطِ فِي الْكَثِيرِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ =مَاءً لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ ; لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا الْعُرْفُ، وَالْعُرْفُ لَا يُسَمِّي هَذَا مَاءًا، وَقَوْلُهُمْ فِي قَاعِدَةِ مَا لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ: إِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَعُلِمَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَابِطٌ جَرَى عَلَى الْمُصْطَلَحِ الْعُرْفِيِّ، وَالثَّانِيَ تَعْبِيرٌ جَرَى عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالْمُنَكَّرُ بِوَضْعِهِ شَامِلٌ لِلْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ.
مَسْأَلَةٌ: فِي الْقَطِرَانِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْقِرَبِ إِذَا تَغَيَّرَ بِهِ طَعْمُ الْمَاءِ، أَوْ لَوْنُهُ، أَوْ رِيحُهُ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ حَتَّى يَسْلُبَ الطَّهُورِيَّةَ؟ وَهَلْ هُوَ مُجَاوِرٌ، أَوْ مُخَالِطٌ، وَالزِّفْتُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَارِ إِذَا غَيَّرَ الْمَاءَ هَلْ يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ أَمْ لَا؟ .
الْجَوَابُ: قَالَ النووي ﵀ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ ﵁ فِي
1 / 5
الْأُمِّ: إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ قَطِرَانٍ فَتَغَيَّرَ رِيحُهُ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ: إِذَا تَغَيَّرَ بِالْقَطِرَانِ لَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ. فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى حَالَيْنِ فَإِنَّ الْقَطِرَانَ ضَرْبَانِ: مُخْتَلِطٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: هُمَا قَوْلَانِ، وَهُوَ غَلَطٌ. هَذَا كَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قُلْتُ: بَقِيَ صُورَتَانِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِمَا إِحْدَاهُمَا: مَا إِذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ ﵁ إِنَّمَا =فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي تَغَيُّرِ الرِّيحِ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّغَيُّرَ بِاللَّوْنِ دَلِيلُ الْمُجَاوَرَةِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا إِذَا كَانَ مِنْ صَلَاحِ الْوِعَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَنَّ الْقِرَبَ إِذَا لَمْ تُدْهَنْ بِهِ أَسْرَعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا حِينَئِذٍ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَالَّذِي فِي مَقَرِّ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا. وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ.
[بَابُ الْآنِيَةِ]
مَسْأَلَةٌ: قَالُوا: لَوِ اشْتَرَى آنِيَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَازَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِنَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
الْجَوَابُ: لَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ صِحَّةُ الشِّرَاءِ لَا إِبَاحَتُهُ، وَقَدْ يَصِحُّ الشَّيْءُ مَعَ تَحْرِيمِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ النووي قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى جَوَازِ الِاتِّخَاذِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ كَانَ كَبَيْعِ الْمُغَنِّيَةِ.
[بَابُ أَسْبَابِ الْحَدَثِ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْآنَ فِي شَرْحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِتَارِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ: وَيَكْفِي السَّتْرُ بِالْوَهْدَةِ وَنَحْوِهَا وَبِإِرْخَاءِ الذَّيْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ عَدِّ السَّتْرِ مِنَ الْآدَابِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ مَنْ يَرَى عَوْرَتَهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهَا، أَمَّا بِحَضْرَتِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَشْفُ عَوْرَتِهِ بِحَضْرَتِهِ حَرَامٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبَا التَّوَسُّطِ، وَالْخَادِمُ، والبلقيني فِي فَتَاوِيهِ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ شهاب الدين ابن النقيب فِي نُكَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْعِدُ وَيَسْتَتِرُ أَيْ: وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَلَوْ بِشَجَرَةٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ جمال الدين الأسنوي فِي الْقِطْعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَتِرُ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَتَحَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ عُيُونِ النَّاظِرِينَ، وَقَدْ قَالَ أَعْنِي الأسنوي فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: يُقَدِّمُ دَاخِلُ الْخَلَاءِ يَسَارَهُ وَالْخَارِجُ يَمِينَهُ.
تَنْبِيهٌ: جَمِيعُ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْآدَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالَ وَالِاسْتِدْبَارَ فِي الصَّحْرَاءِ قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَسَنَذْكُرُ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَاعْلَمْهُ، ثُمَّ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُحَرَّمَانِ بِالصَّحْرَاءِ.
1 / 6
تَنْبِيهَاتٌ: أَحَدُهَا أَنَّ عُدُولَ الْمُصَنِّفِ هُنَا إِلَى التَّحْرِيمِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآدَابِ يُعَرِّفُكَ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَبَقَ انْتَهَى، وَقَدْ قَالُوا فِي الْغُسْلِ: إِنَّهُ يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَالْمَسْؤُولُ بَيَانُ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ؟ أَوْ جَوَازُ الْكَشْفِ لِذَلِكَ وَعَلَى النَّاسِ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ، وَبَيَانُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَهَا مُخَالِفٌ لِبَعْضٍ، وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ بَعْضَهَا يُخَالِفُ الْبَاقِيَ فَمَا الْفَرْقُ؟ وَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الْغُسْلَ مَحَلُّ حَاجَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَعَ السَّتْرِ بِالْإِزَارِ، وَالْبَوْلُ وَالِاسْتِنْجَاءُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فِي الْجُمْلَةِ فَيُسَامَحُ فِيهِمَا بِمَا لَا يُسَامَحُ فِي الْغُسْلِ؟ وَالْمَسْؤُولُ بَيَانُ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مُتَفَضِّلِينَ بِعَزْوِ مَا يَكُونُ مَنْقُولًا وَبِتَوْجِيهِ غَيْرِهِ لِتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ.
الْجَوَابُ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، فَالَّذِي قَالَهُ الشَّارِحُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا اسْتِشْكَالُهُ بِقَوْلِ الأسنوي: إِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْبَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ السَّتْرَ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَقَدْ تَبِعَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَكْثَرَ الْأَصْحَابِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ: الجيلي، ثُمَّ النووي كِلَاهُمَا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ فَقَالَا: إِنَّ عَدَّ ذَلِكَ أَدَبًا فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ حَسَنَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ عَنِ الْعُيُونِ فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْعُيُونِ عَلَى عُيُونِ الْجِنِّ فَيَصِحُّ عَدٌّ ذَلِكَ أَدَبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَأْوِيلٌ حَسَنٌ لِعِبَارَةِ مَنْ قَالَ: عَنْ عُيُونِ النَّاسِ. ذَكَرْتُهُ فِي حَاشِيَةِ الرَّوْضَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْحَاضِرِينَ، بَلْ مَنْ قَدْ يَمُرُّ مِنَ الطَّارِقِينَ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَخُوطِبَ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ وَهُوَ خَالٍ مِنَ الْمَارِّينَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلِاسْتِتَارِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ بِلَا سُتْرَةٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَجْأَةً مَارٌّ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ وَقَدْ يَفْرَغُ مِنْ حَاجَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُرَّ أَحَدٌ، أَوْ يَشْعُرَ بِمَنْ مَرَّ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ فَيَنْحَرِفَ، أَوْ يُرْخِيَ ذَيْلَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ حَسَنٌ، أَوْ مُتَعَيِّنٌ، فَيُفَسِّرُ قَوْلَهُمْ: عَنْ عُيُونِ النَّاسِ. أَيِ: الطَّارِقِينَ بَغْتَةً، لَا الْحَاضِرِينَ، أَمَّا الْحَاضِرُونَ فَالسَّتْرُ عَنْهُمْ وَاجِبٌ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّظَرَ مِنَ الْحَاضِرِينَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ فَكَانَ السَّتْرُ وَاجِبًا، وَمِنَ الطَّارِقِينَ مُتَوَقَّعٌ أَوْ مُتَوَهَّمٌ فَكَانَ أَدَبًا إِذْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْحُصُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُورَةٍ وَصُورَةٍ، فَمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ الْبَصَرُ عَوْرَتَهُ حَرُمَ الْكَشْفُ لِلْبَوْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِحَضْرَتِهِمْ
1 / 7
عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا وَهُمْ يَرَوْنَهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لِعَوْرَتِهِ وَلَا إِدْرَاكٍ لِلَوْنِ جِلْدِهِ، بَلْ إِنَّمَا يَرَوْنَ شَبَحًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا لِمَنْ يَسْتَنْجِي عَلَى شُطُوطِ الْأَنْهَارِ، فَهَذَا يَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ أَيْضًا فِي صُورَةٍ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهُ الْبَوْلُ وَهُوَ فِي مَكَانٍ مَحْبُوسٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَلَا سَبِيلَ إِلَى جِهَةٍ يَسْتَتِرُ بِهَا، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلْبَوْلِ وَعَلَيْهِمْ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ، وَكَذَا لَوِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجِدْ بِحَضْرَةِ الْمَاءِ مَكَانًا خَالِيًا، فَهَذَا أَيْضًا يَجُوزُ لَهُ وَعَلَيْهِمُ الْغَضُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: لَوْ شَمَّ الشَّخْصُ يَدَهُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَدْرَكَ فِيهَا رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ فَقَدْ صَرَّحَ النووي بِنَجَاسَةِ الْيَدِ دُونَ الْمَحَلِّ وَهُوَ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ الْيَدَ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الْمَحَلِّ =وَمُكْتَسَبَةٌ مِنْهُ.
الْجَوَابُ: ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَا لَوْ غُسِلَتِ النَّجَاسَةُ وَبَقِيَتْ رَائِحَتُهَا يَعْنِي مَعَ الْعُسْرِ وَالْأَرْجَحُ فِيهَا الطَّهَارَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَرْجَحُ طَهَارَةُ الْمَحَلِّ، وَأَمَّا الْيَدُ فَلَمْ تُغْسَلْ بَعْدُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُهَا.
[بَابُ الْوُضُوءِ]
مَسْأَلَةٌ: لَوْ بَالَغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ يَحْرُمُ، أَوْ يُكْرَهُ؟ .
الْجَوَابُ: الْمُبَالَغَةُ لِلصَّائِمِ مَكْرُوهَةٌ، صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
مَسْأَلَةٌ: لَوْ نَوَى الِاغْتِرَافَ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكَوْنِ نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ قَاطِعَةً لِرَفْعِ الْحَدَثِ كَمَا لَوْ طَرَأَتْ نِيَّةُ التَّبَرُّدِ؟ .
الْجَوَابُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ جلال الدين البلقيني وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّبَرُّدِ فِيهَا صَرْفٌ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَنْوِي الِاغْتِرَافَ لِمَنْعِ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ، فَهَذَا وَلَا بُدَّ يَكُونُ ذَاكِرًا لِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ.
[بَابُ مَسْحِ الْخُفِّ]
مَسْأَلَةٌ: لَوْ كَانَ سَلِيمَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَالْأُخْرَى عَلِيلَةٌ بِحَيْثُ يَسْقُطُ غَسْلُهَا فَهَلْ يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفِّ فِي إِحْدَاهُمَا؟ وَقَدْ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِالصِّحَّةِ وَقَطَعَ العمراني بِالْمَنْعِ
الْجَوَابُ: قَدْ صُحِّحَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ مَقَالَةُ العمراني.
1 / 8
[بَابُ الْغُسْلِ]
مَسْأَلَةٌ: إِذَا اغْتَسَلَ عَنِ الْجَنَابَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي يَتَوَضَّأَهُ قَبْلَهُ الْمُوَالَاةُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا تَوَضَّأَ هَذَا الْوُضُوءَ، ثُمَّ انْتَهَى بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ قَبْلَ الْغُسْلِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَنِ هَلْ يُشْتَرَطُ إِعَادَتُهُ لِتَحْصِيلِ السُّنَّةِ أَمْ لَا؟، وَهَلْ سُنَّةُ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ إِذَا انْتَهَتْ قَبْلَ تَمَامِهِ؟ .
الْجَوَابُ: لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ وَلَا الْإِعَادَةُ.
مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ بَعْضَ وَلَدٍ، وَلَمْ تَرَ بَلَلًا فَلَا غُسْلَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِنَا أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَنِيِّهِمَا.
الْجَوَابُ: لَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ الْوَلَدِ فِي كَلَامِهِمْ وَقَدْ قَالُوا فِيمَا لَوْ أَلْقَتْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً بِلَا بَلَلٍ: إِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْضَ الْوَلَدِ كَذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ.
مَسْأَلَةٌ: الْبَلَلُ الْخَارِجُ عَلَى الْوَلَدِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ، أَوْ نَجِسٌ وَهَلْ يُنَجِّسُ مَا أَصَابَهُ؟ .
الْجَوَابُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي مَا نَصُّهُ:
فَصْلٌ: فَأَمَّا حَمْلُ الْمَيِّتَةِ فَإِنِ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا حَيًّا، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَلَكِنْ قَدْ نَجُسَ ظَاهِرُ جِسْمِهِ بِالْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدِ انْفَصَلَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَ فِي الْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ وَمَعَ الْبَيْضَةِ مِنَ الطَّائِرِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا.
أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ كَالْبَوْلِ وَالثَّانِي: طَاهِرٌ كَالْمَنِيِّ وَهَكَذَا الْبَلَلُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ فِي حَالِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: يَجِبُ غَسْلُ الْبَيْضَةِ إِنْ وَقَعَتْ حَالَةَ الِانْفِصَالِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ لَا يَجِبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بَلَلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ طَاهِرٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بَلَلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَفِي نَجَاسَةِ بَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَجْهَانِ كَمَنِيِّهِ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ طَاهِرٌ فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ؟
فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَفِي فَتَاوَى ابن الصلاح سُئِلَ هَلْ يَكُونُ الْمَوْلُودُ إِذَا وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ نَجِسًا أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ ﵃، وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْآنِيَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْبَيْضَةُ الْخَارِجَةُ فِي حَيَاةِ الدَّجَاجَةِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ظَاهِرِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ والروياني وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِنَاءً
1 / 9
عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي الْوَلَدِ الْخَارِجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ والروياني.
وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَيْضًا فِي بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَهَلْ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِ الْبَيْضِ إِذَا وَقَعَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ وَقَطَعَ ابن الصباغ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَقَالَ: الْوَلَدُ إِذَا خَرَجَ طَاهِرًا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَا الْبَيْضُ، وَقَالَ بَعْدَهُ بِأَوْرَاقٍ مَا نَصُّهُ: الرَّابِعَةُ فِي الْفَتَاوِي الْمَنْقُولَةِ عَنْ صَاحِبِ الشَّامِلِ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْجَوْفِ طَاهِرًا لَا يُحْتَاجُ إِلَى غَسْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبِيضُ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، قَالَ: وَالنَّجَاسَةُ الْبَاطِنَةُ لَا حُكْمَ لَهَا، وَلِهَذَا اللَّبَنُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَهُوَ طَاهِرٌ حَلَالٌ.
وَقَالَ الأسنوي فِي الْمُهِمَّاتِ: رَأَيْتُ فِي الْكَافِي للخوارزمي أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ الْمَوْلُودِ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرَّعًا عَلَى الْخِلَافِ وَأَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ انْتَهَى.
لَكِنْ جَزَمَ الرافعي فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ بِنَجَاسَةِ الْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَ الْوَلَدِ وَنَقَلَهُ الزركشي فِي الْخَادِمِ، وَحَكَاهُ عَنْ تَصْحِيحِ الروياني فِي الْبَحْرِ فَإِنْ قَصَدَ الرافعي وَلَدَ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ ; لِأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَنَجَاسَةُ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَإِنْ أَرَادَ الْآدَمِيَّ وَغَيْرَهُ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.
مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَا بِقَصْدِ الْقُرْآنِ؟ .
الْجَوَابُ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ إِيرَادُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْقُرْآنَ، بَلْ قَصَدَ الذِّكْرَ، أَوِ الْوَعْظَ، أَوِ الْإِخْبَارَ مِثْلَ ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ﴾ [مريم: ١٢] وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَا بِقَصْدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إِيرَادُهُ بِلَا قَصْدِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ الْخُلُوُّ عَنْ قَصْدِ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ، أَوْ نَحْوِهَا، أَمَّا مِثْلُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ ; فَإِنَّهَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ مِنْهَا كُلِّهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِلتِّلَاوَةِ.
[بَابُ النَّجَاسَةِ]
[مسائل متفرقة]
بَابُ النَّجَاسَةِ
مَسْأَلَةٌ: الْأَرْضُ التُّرَابِيَّةُ إِذَا تَنَجَّسَتْ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً، ثُمَّ وَطِئَهَا شَخْصٌ وَعَلِقَ بِهِ
1 / 10
التُّرَابُ، أَوِ الْوَحْلُ الْمُتَنَجِّسُ فَهَلْ يُحْتَاجُ فِي تَطْهِيرِهِ إِلَى تَعْفِيرٍ أَمْ لَا؟، وَإِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْفِيرٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ عُفِّرَ فِي الْأُولَى بِجَامِعِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجِبُ تَعْفِيرُهُ إِذْ هُوَ مِنْ شَيْءٍ لَا يُطْلَبُ تَعْفِيرُهُ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ لَا يُطْلَبُ تَعْفِيرُهُ.
الْجَوَابُ: يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْفِيرِ وَذَلِكَ مَنْقُولٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ التُّرَابِيَّةِ حَيْثُ لَا تَحْتَاجُ هِيَ أَنْ لَا تُعَفَّرَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَتْرِيبِ التُّرَابِ وَهُنَا الْمُتَنَجِّسُ غَيْرُ التُّرَابِ وَهُوَ الْبَدَنُ، أَوِ الثَّوْبُ بِالتُّرَابِ الْمُتَنَجِّسِ، وَالتُّرَابُ الْمُتَنَجِّسُ لَا يَكْفِي فِي الْوُلُوغِ وَفِي وَجْهٍ يَكْفِي فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا.
قَالَ ابن السبكي فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ أبو بكر الضبعي يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ تُرَابَ الْوُلُوغِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ الرافعي، قَالَ أبو عاصم وَذَكَرَ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَأَصَابَ ذِرَاعَهُ طِينٌ مِنْ وَحْلِ كَلْبٍ فَأَمَرَ جَارِيَتَهُ بِغَسْلِهِ وَتَعْفِيرِهِ فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَمَا فِي الطِّينِ تُرَابٌ. فَقَالَ: أَحْسَنْتِ، أَنْتِ أَفْقَهُ مِنِّي.
انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابن السبكي، وَهَذِهِ عَيْنُ الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ ابن السبكي بِأَنَّ ارْتِضَاءَهُ بِعَدَمِ التَّعْفِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ فَيَكُونُ عَلَى مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ مُحْتَاجًا إِلَى التَّعْفِيرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا عِلَّتَهُ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُصِيبُ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّعْفِيرِ، فَهُوَ أَنَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَقَعَ تَعْفِيرُهُ لَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُطْلَبْ تَعْفِيرُهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ كَحُكْمِ الْمَغْسُولِ بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا فَمَا كَانَ حُكْمَهُ كَانَ حُكْمَ مَا أَصَابَتْهُ.
مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَكَلَ الشَّخْصُ لَحْمَ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرِ وَارِثِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ هَلْ يُسَبِّعُ الْمَحَلَّ؟ .
الْجَوَابُ: لَا يُسَبِّعُ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ﵁ وَنَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا وَقَعَ، أَوْ أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ كَحَصَاةٍ، أَوْ جَرِيدَةٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُؤْكَلُ وَأُزِيلَ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ خَلًّا هَلْ تُطَهَّرُ أَوَّلًا؟ وَإِذَا بَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا هَلْ تُنَجِّسُهَا أَوَّلًا؟ وَإِذَا انْفَصَلَ شَيْءٌ مِنَ الْخَمْرِ، أَوْ فُصِلَ وَعَادَ إِلَيْهِ، أَوْ أُعِيدَ، أَوْ صُبَّ عَلَيْهَا خَمْرٌ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ خَلًّا هَلْ تُطَهَّرُ أَمْ لَا؟ .
الْجَوَابُ: عَنِ الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّهَا تُطَهَّرُ فَفِي فَتَاوَى النووي: إِذَا وَقَعَتْ فِي الْخَمْرِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى كَعَظْمِ مَيْتَةٍ وَنَحْوِهِ فَأُخْرِجَتْ مِنْهَا، ثُمَّ انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا لَمْ تُطَهَّرْ بِلَا خِلَافٍ
1 / 11
ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَعِبَارَةُ الزركشي فِي الدِّيبَاجِ: الْخَمْرُ إِذَا تَخَلَّلَتْ تُطَهَّرُ إِجْمَاعًا، قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: هَذَا إِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى فَإِنْ وَقَعَتْ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ وَتَخَلَّلَتْ لَمْ تُطَهَّرْ قَطْعًا، فَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَاقِعُ نَجَاسَةً وَأُخْرِجَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَاقَاهَا عَيْنٌ طَاهِرَةٌ وَأُخْرِجَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ ; فَإِنَّهَا تُطَهَّرُ إِذَا تَخَلَّلَتْ فَإِنَّ الْمُدْرِكَ هُنَا طَرْفٌ نَجِسٌ أَجْنَبِيٌّ، وَمِنْهُ أَخْذُ مَنْ أَخَذَ أَنَّ النَّجِسَ نَجِسٌ، وَهُوَ هُنَا مَفْقُودٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْعَيْنَ تَنْجُسُ، ثُمَّ =تُنَجِّسُ فَإِنَّ ذَاكَ إِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ الِانْقِلَابِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَنَّ طُرُوءَ النَّجِسِ الْأَجْنَبِيِّ يَمْنَعُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْحَجَرِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مَرُّ الْحَجَرِ الطَّاهِرِ مِنْ أَوَّلِ الْمَحَلِّ إِلَى آخِرِهِ وَإِنْ تَلَوَّثَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ إِذَا لَمْ يَنْفَصِلْ، وَكَذَا مَرُّ الْمَاءِ عَلَى الثَّوْبِ النَّجِسِ الْمُرَادِ تَطْهِيرُهُ وَعَلَى مَحَلِّ الْحَدَثِ.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ النَّجِسَةِ وَالطَّاهِرَةِ فِي الْمُلَاقَاةِ قَبْلَ التَّخْلِيلِ لِمَا فِي الْأُولَى مِنْ طُرُوءِ نَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُ النووي: نَجَاسَةٌ أُخْرَى، وَالتَّفْرِقَةُ فِي الطَّاهِرَةِ بَيْنَ مَا إِذَا زَالَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ، وَمَا إِذَا بَقِيَتْ بَعْدَهُ ; فَإِنَّهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى =مُشَاكِلَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُغَايِرَةٌ، فَإِنَّهَا فِي الْأُولَى مُتَلَوِّثَةٌ بِخَمْرٍ فِي خَمْرٍ فَلَا تُؤَثِّرُ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُتَلَوِّثَةٌ بِخَمْرٍ فِي خَلٍّ فَتَنْجُسُ، وَعَنِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا لَا تُطَهَّرُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهِيَ مَنْقُولُ الْكُتُبِ، وَعَنِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تُطَهَّرُ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وَضْعِ الْخَمْرِ فِي الدَّنِّ بَيْنَ أَنْ يُوضَعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَصَبُّ خَمْرٍ عَلَى خَمْرٍ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ وُضِعَ فِي الدَّنِّ أَوَّلًا كُوزٌ مِنْهُ، ثُمَّ كُوزٌ، ثُمَّ كُوزٌ وَهَكَذَا، فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ طُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ خَمْرٌ مِنْ =خَارِجٍ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعَادُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[تُحْفَةُ الْأَنْجَابِ بِمَسْأَلَةِ السِّنْجَابِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ صُورَتُهُ: مَا قَوْلُ مَوْلَانَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ حَافِظِ الْعَصْرِ مُجْتَهِدِ الْوَقْتِ عَالِمِ أَهْلِ الْأَرْضِ الْمَبْعُوثِ فِي الْمِائَةِ التَّاسِعَةِ فِي شَعَرِ السِّنْجَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ شُعُورِ الْمَيْتَةِ هَلْ يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ، أَوْ لَا؟ وَلَسْنَا نَسْأَلُكُمْ عَنْ مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ﵁، فَإِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ قَوْلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ، بَلْ نَسْأَلُكُمْ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَالنَّظَرُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِهَادُ، وَالْمَسْؤُولُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ وَأَصْحَابِ الِاخْتِيَارَاتِ.
1 / 12
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيرِ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْأُولَى فِي أَنَّ الشَّعَرَ هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، أَوْ لَا يَنْجُسُ بِهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ؟ وَالثَّانِيَةُ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ وَعَدِمَهَا وَحُجَجِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَةِ الشَّعَرِ بِالْمَوْتِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ مِنْهُمْ عطاء، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: الْبُوَيْطِيُّ، والمزني، والربيع المرادي، وَحَرْمَلَةُ، وَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ، وَصَحَّحَهُ جُمْهُورُ الْمُصَحِّحِينَ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ الشَّعَرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: حَكَى ابن شريح، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، عَنِ المزني، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنَجُّسِ الشَّعَرِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، والمزني، وابن المنذر، وداود، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْجُسُ شَيْءٌ مِنَ الشَّعَرِ بِالْمَوْتِ إِلَّا شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ وَبِقَوْلِهِ ﷺ فِي الْمَيْتَةِ: " «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَبِأَنَّ الشَّعَرَ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا جُزَّ لَا يَأْلَمُ صَاحِبُهُ، فَلَا يُحِلُّهُ الْمَوْتُ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ، فَلَا يَكُونُ نَجِسًا، بَلْ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَبِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِتَنْجِيسِ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ مَا فِيهَا مِنَ الزُّهُومَةِ، وَلَا زُهُومَةَ فِي الشَّعَرِ، فَلَا =يَنْجُسُ، وَحَكَى العبدري، عَنِ الحسن، وعطاء، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الشَّعَرَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَلَكِنْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أم سلمة عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: " «لَا بَأْسَ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِشَعَرِهَا إِذَا غُسِلَ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى شَعَرِ غَيْرِهَا إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَسَائِرِ الْجَامِدَاتِ إِذَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهَا، وَحَكَى الرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعَرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ يَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَيَنْجُسُ بِنَجَاسَتِهِ، وَهَذَا أَقْوَى الْمَذَاهِبِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ شَيْءٌ مِنْهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وعائشة، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، وَرِوَايَةٌ عَنْ مالك.
وَالثَّانِي: يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ جِلْدُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ
1 / 13
مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وابن المبارك، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَرِوَايَةُ أشهب عَنْ مالك.
وَالثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِهِ كُلُّ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالرَّابِعُ: يَطْهُرُ بِهِ الْجَمِيعُ إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مالك حَكَاهَا ابن القطان.
وَالْخَامِسُ: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ حَتَّى =الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إِلَّا أَنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك فِيمَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْهُ.
وَالسَّادِسُ: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ حَتَّى الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَهُ داود وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أبي يوسف وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ سُحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالسَّابِعُ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ - حَكَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجِلْدِ وَغَيْرِهِ، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ " أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ»، وَلَا عَصَبٍ " وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَتُهُمْ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي حرملة، وأحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أحمد بن الحسين يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ ابن عكيم هَذَا لِقَوْلِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يَقُولُ هَذَا آخِرُ الْأَمْرِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِشَيْءٍ كَاللَّحْمِ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَجُسَ بِهِ هُوَ الْمَوْتُ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يَزُولُ بِالدَّبْغِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» "، وَفِي لَفْظٍ " «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: " هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: " إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»، وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سودة زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا.
رَوَى أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ شَاةٌ لسودة فَقَالَتْ:
1 / 14
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ. يَعْنِي الشَّاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " فَهَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا؟ " قَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ» - فَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى مالك فِي الْمُوَطَّأِ، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ عَنْ عائشة: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ» .
وَرَوَى أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَصَحَّحَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ: أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ: (دِبَاغُهُ يَذْهَبُ بِخُبْثِهِ - أَوْ نَجَسِهِ، أَوْ رِجْسِهِ)» .
وَرَوَى أحمد، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ جون بن قتادة، عَنْ سلمة بن المحبق: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَالَ: (أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟) قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: (فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا)» .
وَرَوَى أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ميمونة قَالَتْ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رِجَالٌ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: (لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا) قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ، وَالْقَرَظُ)» .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا، أَوَ لَيْسَ فِي الْمَاءِ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا)»، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: («إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا»)، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ قَالَ: («إِنَّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا وَدِبَاغُ إِهَابِهَا طَهُورُهُ»)، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ قَالَ: («إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا») قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عائشة عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: («ذَكَاةُ الْمَيْتَةِ دِبَاغُهَا»)، وَفِي لَفْظٍ: («طَهُورُهَا دِبَاغُهَا») .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: («دِبَاغُ كُلِّ إِهَابٍ طَهُورُهُ») .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: («أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ») .
وَرَوَى الخطيب فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ حَدِيثِ جابر مِثْلَهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْ أبي أمامة «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَمَرَّ بِأَهْلِ أَبْيَاتٍ مِنَ الْعَرَبِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ (هَلْ مِنْ مَاءٍ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟) فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا فِي إِهَابِ مَيْتَةٍ دَبَغْنَاهَا بِلَبَنٍ.
1 / 15
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ (أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ) فَأُتِيَ بِهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى»، وَرَوَى أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، ادْعُ لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِوُضُوءٍ. فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَطْلُبُ وُضُوءًا. فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ أَنَّ دَلْوَنَا جِلْدُ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: سَلْهُمْ: هَلْ دَبَغُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ)» .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ. فَقَالَ: (مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا؟)» .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سنان بن سلمة «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى جَذَعَةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِمَسْكِهَا؟)» .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ عَلَى شَاةٍ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالُوا: مَيْتَةٌ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (ادْبَغُوا إِهَابَهَا، فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ)» .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: («دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا») .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عائشة عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: («طَهُورُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ») .
وَرَوَى أبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ «عَنْ أم سلمة: أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا شَاةٌ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟) قُلْنَا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ دِبَاغَهَا يَحِلُّ كَمَا يَحِلُّ الْخَلُّ مِنَ الْخَمْرِ)» .
وَرَوَى أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «طَلَبَ النَّبِيُّ ﷺ مَاءً مِنِ امْرَأَةٍ أَعْرَابِيَّةٍ فَقَالَتْ: هَذِهِ الْقِرْبَةُ مِسْكُ مَيْتَةٍ، وَلَا أُحِبُّ أُنَجِّسُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ دَبَغَتْهَا، فَهُوَ طَهُورُهَا. فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: لَقَدْ دَبَغْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ مِنْهَا» .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَوْهَبَ وُضُوءًا فَقِيلَ لَهُ: لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَسْكِ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: (أَدَبَغْتُمُوهُ)؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَهَلُمَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورُهُ)» .
وَرَوَى الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا نُصِيبُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي مَغَانِمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَسْقِيَةَ وَالْأَوْعِيَةَ فَنُقَسِّمُهَا، كُلُّهَا مَيْتَةٌ» .
وَبِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ كَجِلْدِ الْمُذَكَّاةِ إِذَا تَنَجَّسَ.
وَأَجَابُوا عَنِ احْتِجَاجِ الْأَوَّلِينَ بِالْآيَةِ بِأَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَأَجَابَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وابن عكيم لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَذَا قَالَ أبو حاتم، وَقَالَ ابن دقيق العيد: رُوِيَ أَنَّ إسحاق بن راهويه نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا، فَقَالَ لَهُ إسحاق: مَا الدَّلِيلُ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله بن عبد الله عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ميمونة أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: («هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا»؟)، فَقَالَ لَهُ إسحاق: حَدِيثُ ابن
1 / 16
عكيم «كَتَبَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ: (لَا تَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ)»، فَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ميمونة ; لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵁: هَذَا كِتَابٌ وَذَاكَ سَمَاعٌ، فَقَالَ إسحاق: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إِلَى كسرى وقيصر وَكَانَتْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أحمد ذَهَبَ إِلَى حَدِيثِ ابن عكيم، وَأَفْتَى بِهِ، وَرَجَعَ إسحاق إِلَى حَدِيثِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ ابن دقيق العيد: كَانَ وَالِدِي يَحْكِي عَنِ الْحَافِظِ أبي الحسن المقدسي، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ حُجَّةَ الشَّافِعِيِّ بَاقِيَةٌ، يُرِيدُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّرْجِيحِ بِالسَّمَاعِ وَالْكِتَابِ، لَا فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ.
وَقَالَ الخطابي: مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ الدِّبَاغِ وَالْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْإِهَابِ إِذَا دُبِغَ وَوَهَّنُوا هَذَا الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ ابن عكيم لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ ﷺ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ كِتَابٍ أَتَاهُمْ قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ إِنَّمَا جَاءَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتْرُكَ بِهِ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي قَدْ جَاءَتْ فِي الدِّبَاغِ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّسْخِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ عَلَّلُوا حَدِيثَ ابن عكيم بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِي إِسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: عَنِ ابن عكيم عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَذَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَؤُلَاءِ الْأَشْيَاخُ مَجْهُولُونَ لَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُمْ، وَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِهَذَا الِاضْطِرَابِ، وَقَالَ الخلال: لَمَّا رَأَى أبو عبد الله تَزَلْزُلَ الرُّوَاةِ فِيهِ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَرَوَى بِشَهْرَيْنِ وَرَوَى بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَرَوَى بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَوَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ أَخْبَارَ الدِّبَاغِ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَكْثَرُ =رُوَاةً فَهِيَ أَقْوَى وَأَوْلَى، وَبِأَنَّهُ عَامٌّ فِي النَّهْيِ وَأَخْبَارُ الدِّبَاغِ مُخَصَّصَةٌ لِلنَّهْيِ بِمَا قَبْلَ الدِّبَاغِ مُصَرِّحَةٌ بِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَبِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَلَا يُسَمَّى بَعْدَهُ إِهَابًا - كَذَا قَالَهُ الخليل بن أحمد، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَكَذَا قَالَهُ الجوهري وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ مُتَأَخِّرٌ فَيُقَدَّمُ وَيَكُونُ نَاسِخًا فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لَا نُسَلِّمُ تَأَخُّرَهُ عَنْ أَخْبَارِ الدِّبَاغِ ; لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ ﷺ بِدُونِ
1 / 17
شَهْرَيْنِ وَشَهْرٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَرُوِيَ بِشَهْرَيْنِ وَرُوِيَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَثِيرٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَارِيخٌ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أبي داود فَحَصَلَ فِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ تَارِيخٌ يُعْتَمَدُ.
الثَّالِثُ: لَوْ سُلِّمَ تَأَخُّرُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ وَأَخْبَارُ الدِّبَاغِ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللَّحْمِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ نُصُوصٍ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّبَاغَ فِي اللَّحْمِ لَا يَتَأَتَّى، وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، بَلْ يَمْحَقُهُ بِخِلَافِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ يُنَظِّفُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَصْلُبُهُ، وَبِهَذَيْنَ الْجَوَابَيْنِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمُ: الْعِلَّةُ فِي التَّنْجِيسِ الْمَوْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي بِمَا رَوَاهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ والحاكم وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ ﵁ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ» . قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ تُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَنْهَ عَنِ افْتِرَاشِهَا مُطْلَقًا، وَبِحَدِيثِ سلمة بن المحبق السَّابِقِ " «دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» " قَالُوا: وَذَكَاةُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَا تُطَهِّرُهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدَّبْغِ كَالْكَلْبِ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِالتَّمَسُّكِ بِعُمُومٍ (أَيُّمَا إِهَابٍ) وَ(إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ) وَأَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ ; فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ جِلْدٍ، قَالُوا:
وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ السِّبَاعِ حِينَئِذٍ، بَلْ كُلُّ الْجُلُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ قَبْلَ الدِّبَاغِ غَالِبًا، أَوْ كَثِيرًا، وَأَمَّا حَدِيثُ سلمة فَمَعْنَاهُ أَنَّ دِبَاغَ الْأَدِيمِ مُطَهِّرٌ لَهُ وَمُبِيحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ كَالذَّكَاةِ فِيمَا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ فَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ، فَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَى الْحَيَاةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ، وَالسَّادِسِ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ الدِّبَاغِ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهَا بِأَنَّهَا خُصَّ مِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا نَجِسَانِ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَيْهَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ السَّابِعِ بِرِوَايَةٍ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: («هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟»)، وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّبَاغَ، وَأَجَابَ
1 / 18
الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُطْلَقَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا إِشْكَالَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ ﵁ فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فَهَلْ يَطْهُرُ الشَّعْرُ عِنْدَهُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ، أَوْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: فَإِنْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ قَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يَطْهُرُ الشَّعْرُ ; لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُرُ ; لِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى جِلْدٍ، فَهُوَ كَالْجِلْدِ فِي الطَّهَارَةِ كَشَعْرِ الْحَيَوَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ مَشْهُورَانِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، والشاشي، والرافعي، وَقَطَعَ بِهِ الجرجاني فِي التَّحْرِيرِ قَالَ: وَصَحَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، والروياني طَهَارَتَهُ قَالَ الروياني: لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فِي زَمَنِ عمر ﵁ قَسَّمُوا الْفِرَاءَ الْمَغْنُومَةَ مِنَ الْفُرْسِ، وَهِيَ ذَبَائِحُ مَجُوسَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ صَحَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِحَدِيثِ أسامة السَّابِقِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»، وَرَوَى أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنِ المقدام بن معد يكرب أَنَّهُ قَالَ لمعاوية: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»، وَرَوَى أبو داود «عَنْ معاوية أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ» .
قَالَ الْأَصْحَابُ: يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ مُتَنَاوِلٌ لِمَا بَعْدَ الدِّبَاغِ وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَائِدًا إِلَى نَفْسِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِالدِّبَاغِ بِالدَّلَائِلِ السَّابِقَةِ، فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الشَّعْرِ، هَذَا مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مَا رَجَّحَهُ الإسفراييني والروياني مِنْ طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ.
وَقَدْ رَجَّحَهُ أَيْضًا العبادي، وَقَالَ: عَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ، وَصَحَّحَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ فِي الْمُرْشِدِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ: وَالشَّيْخُ تقي الدين السبكي قَالَ وَلَدُهُ فِي التَّوْشِيحِ: صَحَّحَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ طَهَارَةَ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ قَالَ الْوَالِدُ فِي مَجَامِيعِهِ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ وَأَفْتَى بِهِ لِلْحَدِيثِ، وَقَالَ:
1 / 19
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشَّعْرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، قُلْتُ: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا اخْتَرْتُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قَالَ: «رَأَيْتُ عَلَى ابن أبي وعلة السبائي فَرْوًا فَمَسِسْتُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟ قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَ بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ» .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عبد الجبار بن مسلم عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ»، وَرِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا عبد الجبار، فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ.
وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا» . دُونَ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ عبد الجبار، بَلْ تُوبِعَ، فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شبابة عَنْ أبي بكر الهذلي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله بن عبد الله عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَهُوَ اللَّحْمُ، فَأَمَّا الْجِلْدُ، وَالشَّعْرُ، وَالصُّوفُ، فَهُوَ حَلَالٌ» .
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زافر بن سليمان عَنْ أبي بكر الهذلي بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زافر بن سليمان عَنْ أبي بكر الهذلي أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ عبيد الله بن عبد الله «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ حَلَالٌ إِلَّا مَا أُكِلَ مِنْهَا»، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْفَرْوُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَكُلُّ هَذَا حَلَالٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُذَكَّى، وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن السعد عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «سَمِعْتُ أم سلمة تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ» .
وَلَهُ شَاهِدٌ ثَانٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عبد الله بن قيس البصري أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا.
وَشَاهِدٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أبي وائل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفِرَاءِ: ذَكَاتُهُ دِبَاغُهُ، وَشَاهِدٌ رَابِعٌ أَخْرَجَهُ أحمد، وَالْبَيْهَقِيُّ «مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
1 / 20
لَيْلَى فَأَتَاهُ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا أبا عيسى حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ فِي الْفِرَاءِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُصَلِّي فِي الْفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ. قَالَ ثابت: فَلَمَّا وَلَّى قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ؟» .
وَشَاهِدٌ خَامِسٌ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي الصَّلَاةِ فِي الْفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَأَلَ داود السراج الحسن عَنْ جُلُودِ النَّمِرِ وَالسَّمُّورِ تُدْبَغُ بِالْمِلْحِ قَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا.
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ صَرِيحَةٌ فِي الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ صَرِيحٍ، حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» - هَذَا الْحَدِيثُ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ الْفِرَاءِ كَمَا هُوَ نَصٌّ اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي إِبَاحَةِ الْجُبْنِ، وَلِهَذَا بَوَّبَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ (بَابَ لُبْسِ الْفِرَاءِ)، وَإِنَّمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ هَذَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَجَاسَتِهِمَا لِمَا فِي الْجُبْنِ مِنَ الْإِنْفَحَةِ، وَلِكَوْنِ الْفِرَاءِ مِنْ مَيْتَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْفِرَاءَ الْمُذَكَّاةَ لَمْ يُحْسِنِ السُّؤَالَ عَنْهَا لِلْعِلْمِ بِطَهَارَتِهَا قَطْعًا، وَقَدْ أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمَا مَعًا بِأَنَّهُمَا مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ.
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سلمان، وَأَخْرَجَ عَنِ الحسن مُرْسَلًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنِ المغيرة يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ المغيرة وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ راشد الحماني قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَلَيْهِ فَرْوٌ أَحْمَرُ، فَقَالَ: كَانَتْ لُحُفُنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَلْبَسُهَا وَنُصَلِّي فِيهَا، رِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ إِلَّا أحمد بن القاسم، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْوُ الَّذِي رَآهُ عَلَى أَنَسٍ مِنْ مُذَكًّى لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ حَتَّى احْتَاجَ أَنَسٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى طَهَارَتِهَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَهَا وَيُصَلُّونَ فِيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلِأَصْلِ حَدِيثِ سلمان شَاهِدٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذهبي فِي مُخْتَصَرِهِ، وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ»، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُفِيدُهَا فِي الشَّعْرِ قَصْدًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا تَبَعًا لِلْجِلْدِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ،
1 / 21
فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤]، وَشَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ جابر.
أَخْرَجَ ابن مردويه عَنْ جابر قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: يَا كعب، مَا أَحَلَّ رَبُّكَ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ» ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤] .
وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أبي ثعلبة وَيُؤَيِّدُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ فِي حَدِيثِ سلمان عَنِ الْجُبْنِ ; لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْفَحَةِ، وَعَنِ الْفِرَاءِ ; لِأَجْلِ كَوْنِهِ مِنْ مَيْتَةٍ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ. قَالَ: ذَكَرْنَا الْجُبْنَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُلْنَا: إِنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ أَنَافِحُ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ عمر: سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَكُلُوا.
وَرَوَى سعيد أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِجُبْنَةٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ صَنْعَةِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا)» .
وَرَوَى سعيد أَيْضًا «عَنْ إسحاق بن عبد الله بن الحارث قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلِيِّ بن عباس، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ يُصْنَعُ لَنَا بِالْعِرَاقِ مِنْ هَذَا الْجُبْنِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ مِنْ أَنَافِحِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَنَافِحِ الْمَيْتَةِ، فَلَا تَأْكُلْهُ، وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَكُلْهُ، قَالَ لَهُ أَبِي: وَإِنَّهُ يُصْنَعُ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْفِرَاءِ وَبَلَغَنِي أَنَّهَا تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (دِبَاغُ كُلِّ أَدِيمٍ ذَكَاتُهُ)» .
وَرَوَاهُ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى «عَنْ إسحاق بن عبد الله بن الحارث قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الْفِرَاءُ تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (ذَكَاةُ كُلِّ مَسْكٍ دِبَاغُهُ)»، فَهَذَا أَيْضًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُ الْفِرَاءَ مُطْلَقًا جِلْدًا، أَوْ شَعْرًا.
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ إِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي دِبَاغِ إِهَابِ الشَّاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّعْرُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ: انْزِعُوا شَعْرَهَا وَادْبَغُوا الْجِلْدَ وَانْتَفِعُوا بِهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ بَيَانٍ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمَّا أَطْلَقَ وَلَمْ يُفَصِّلْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠] وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى شَعْرِ الْمَأْكُولِ إِذَا ذُكِّيَ وَأُخِذَ فِي حَيَاتِهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْآيَةَ خُوطِبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَوَاخِرِ تَعْدَادِ النِّعَمِ ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: ٨١]، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَتَوَقَّفُ
1 / 22
فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ فَكَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةً، وَقَدْ وَرَدَتِ الْآيَةُ امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِشُعُورِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ طُهْرُهَا، وَقَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِنَّ (مِنْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ الطَّاهِرُ يُنَازَعُ فِيهِ بِأَنَّ (مِنْ) هَذِهِ لَيْسَتْ هِيَ التَّبْعِيضِيَّةَ، بَلْ هِيَ التَّجْرِيدِيَّةُ كَمَا يَفْهَمُهُ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِعِلْمِ الْبَيَانِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي الْآيَةِ فَهِيَ كَالْمِثَالِ الَّذِي يُمَثِّلُ بِهِ أَرْبَابُ الْبَيَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ لِي: مِنْ فُلَانٍ صِدِيقٍ حَمِيمٍ، أَيْ أَنَّ فُلَانًا نَفْسَهُ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهُ صَدِيقٌ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ.
اسْتِدْلَالٌ آخَرُ: قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ بِنَفْسِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: («إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ») ; لِأَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجِلْدِ بِشَعْرِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا إِهَابُ الْمَيْتَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِهَابُهَا وَشَعْرُهَا، وَإِذَا انْطَلَقَ الِاسْمُ عَلَيْهِ حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ «حَدِيثُ أبي الخير قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى ابن وعلة فَرْوًا فَكَلَّمْتُهُ فِيهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (دِبَاغُهُ طَهُورُهُ)» .
وَحَدِيثُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَى شَيْخٌ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا أبا عيسى، حَدِّثْنِي حَدِيثَ أَبِيكَ فِي الْفِرَاءِ، فَقَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُصَلِّي فِي الْفِرَاءِ؟ قَالَ: فَأَيْنَ الدَّبْغُ؟ فَلَمَّا وَلَّى، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ.»
قَالَ هَذَا الْمُجْتَهِدُ الْمَذْكُورُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ الشُّعُورِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي الدَّلِيلِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ نَجُسَ الشَّعْرُ بِالْمَوْتِ، لَكَانَ طَاهِرًا بَعْدَ الدِّبَاغِ، لَكِنْ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَلَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الدِّبَاغَ إِنَّمَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي مَا لَهُ أَثَرٌ، وَلَا أَثَرَ لِلدِّبَاغِ فِي الشَّعْرِ، فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ طَاهِرٌ بَعْدَ الدِّبَاغِ أَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالشَّعْرِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا إِهَابُ الشَّاةِ مَثَلًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِهَابُهَا وَشَعْرُهَا.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِهَابِ عَلَى الْجِلْدِ بِشَعْرِهِ، وَإِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ لِقَوْلِهِ ﵊: («أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ») وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ، وَقَوْلُهُ فِي تَقْرِيرِهَا: إِنَّ الدِّبَاغَ إِنَّمَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِيمَا لَهُ أَثَرٌ يُقَالُ عَلَيْهِ: إِنَّمَا يُفِيدُهَا فِيمَا لَهُ فِيهِ أَثَرٌ قَصْدًا أَوْ تَبَعًا الْأَوَّلُ مُسْلِمٌ صَاحِبُ الْخَادِمِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: - كَأَنَّهُ يَعْنِي البلقيني وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ جِهَةٍ لَا سِيَّمَا
1 / 23