دارت المركبة بي في دائرة الجزيرة الصغرى دورتين، وإذ كانت قرب الجسر (الكبري) الذي يعبر عليه إلى طريق الجيزة لمحت على حين غفلة إيفون في مركبتها الفخمة مرت أمامي كالبرق الخاطف واجتازت الجسر.
رأتني كما رأيتها ولم تبد أقل إشارة، ولا استوقفت عربتها لتكلمني كما كنت أؤمل فاستولى علي اليأس حالا، وصرت أعلل ذلك بأنها تناست ما كان مني ولم تحسبه ذا أهمية كما ظننت، وجعلت أقنع نفسي بأن ما أحسبه مأثرة لي ليس إلا سخافة.
وكانت مركبتي قد انثنت لتستأنف دورة ثالثة، ولكن بعد هنيهة تجدد أملي؛ لأنه حيث يوجد الميل ينشأ الأمل، فأوعزت إلى الحوذي أن ينثني وينطلق إلى الجيزة؛ لأني قدرت أن إيفون قاصدة إلى هناك.
درجت بي المركبة مسافة في ذلك الطريق والوهم يصور لي أني إذا أدركت إيفون، واجتمعت بها فقد لا تعبأ بي كثيرا بل تضحك مني، وتقول في نفسها: «ما أسخف عقله! ما رآني حتى تبعني»، تجسم بي هذا الوهم؛ لأنها لم تحيني إذ رأتني ولا أمهلتني حتى أحييها؛ لذلك قلت للحوذي أن يرجع، فألوى العنان متجها إلى الجزيرة.
وما كدت أصل إلى الجسر حتى ندمت على رجوعي، ولمت نفسي على جبني وقلت: أتبعها إلى الجيزة ولتقل ما تقول، وأمرت الحوذي أن يلوي العنان ثانية فدرجت بي المركبة إلى هناك وأنا أفكر في كيفية الالتقاء بإيفون، وماذا أفعل إذا رأيتها في الحانة وماذا أكلمها، ولكن فؤادي كان شديد الخفقان حتى كنت أسمع خفوقه بأذني، وكثيرا ما ترددت في أمر لحاقها، وهمت غير مرة أن أقول للحوذي أن يرجع بي ، ولكني أسكت لساني عن ذلك مخافة أن يظنني الحوذي أهوج أو مجنونا.
ما أدركت مركبتي حانة الجيزة حتى رأيت إيفون خارجة من مدخلها الكبير، وحوذيها يدنو بالمركبة إليها، فقلت لحوذي مركبتي: أن يستمر في طريقه وغضضت نظري عنها؛ لأني خفت أن تعلم أني أتبعها، وأوهمت أني أتقدم في طريق الأهرام، أما هي فلا أدري إن كانت قد رأتني.
لعنت نفسي ألف لعنة لترددي السابق في اللحاق بها؛ لأني لو اتبعتها في الحال لأدركتها في الحانة.
وما تقدمت بي مركبتي نحو ربع كيلو متر حتى أمرت الحوذي أن يعود مسرعا ما استطاع؛ لعله يدرك عربتها فأتبعها إلى حيث تنتهي فأعلم مقرها، ولكن خاب ما أملت لأن مركبتها كانت مشدودة إلى مطهمين يسابقان الرياح، عضضت أصابعي ندما ولكن لات ساعة مندم، مر على هذه المصادفة نحو شهرين من غير أن تعاد، قل ترددي إلى الجزيرة والجيزة، وفتر وجدي حتى كدت أنسى إيفون؛ أولا لأني لم أعد أصادفها فضعف أملي بلقائها؛ ثانيا لأني لما رأيتها في الجزيرة تراءت لي كأنها لا تعرفني. علمت بعد ذلك أنها كانت في الإسكندرية مدة ذينك الشهرين.
الفصل الرابع
لقاء فيه الداء
صفحة غير معروفة