وجدت أمه والخادمة عنده فحييت ودنوت منه، فوجدت وجهه لا يزال يتورد والحمى آخذة بالخمود، وعلمت أن أنفلونزا شديدة هاجمته، فطمأنته وأمه ووصفت له العلاج الناجع، وبعد هنيهة أوعز إلى أمه والخادمة أن تتركانا وحدنا؛ لأنه كان على مثل نار الغضا في توقع أخبار إيفون، ولما خرجتا نظر إلي والأمل يشع من مقلتيه، وهو ملقى في سريره على يمينه ووجهه إلي، وقال: عدت إيفون اليوم؟ - من غير بد. - كيف حالها؟ - أحسن من أمس، ولي الأمل أن تكون غدا أحسن من اليوم، فأبرقت أسرته وقال: أكيد؟ - لست أخدعك لكي أطمئنك فقط، بل الحقيقة هي ما أقول. - إذن تؤمل أن إيفون تشفى؟ - نعم. - إني مدين لك بحياتي. - أما زرتها يا مسيو موريس؟ - كلا. - عجيب!
فسكت، وبعد هنيهة قلت له: ألا تزورها غدا حين تستطيع الخروج. - لا أظن. - عجيب، كيف تطيق وأنت تحبها أن تجفوها في أثناء مرضها؟ - أراك يا دكتور بوشه تحرجني أن أطلعك على سر حبي لإيفون. - اعذرني على فضولي. - بل سامحني أيها العزيز، فإني أكتم عنك مصيبتي بإيفون مع أني أشعر أنك أصبحت موضع ثقتي الوحيد بالرغم من حداثة تشرفي بمعرفتك، أما أنت صديق حقيقي الآن؟
لم يكن عندي ريب بأن موريس اتخذني صديقا أمينا لأول مقابلة، وامتلأ ثقة بي وتمنى أن أبادله مثل هذه الثقة، وتلك الصداقة على أنه تسرع في ذلك قبل أن يعرفني جيدا، ولماذا؟ السبب بسيط، وهو أني كنت أعود مدموازيل إيفون كل يوم، ولو كان طبيب آخر سواي يعالجها لنال من حب موريس ودالته وثقته ما نلت، فأجبته على سؤاله: لا أظنك تشك بذلك. - إن إيفون تأبى مقابلتي، فأخاف أن تتأثر إذا زرتها. - ألا تحبك؟ - لا أظن أنها لا تحبني. - فلماذا تأبى مقابلتك إذن؟
فتنهد قائلا: هنا كل مصيبتي.
وعند ذلك ضغط على زر جرس الاستدعاء فدخلت الخادمة فقال لها: اقفلي الباب ولا يدخل علينا أحد بغير استئذان.
ارتفع قليلا على مخدته ووضع كفه تحت رأسه، وقال: يلذ لي أيها الصديق أن أقص عليك حكايتي مع إيفون؛ لأن قصها يفرج كربي، آه إيفون، إيفون، ما أهنأ الموت عند مدخل بابك.
فتبسمت قليلا فقال: لا تضحك يا عزيزي بوشه بل ارث فإن الحب أعظم ما في العالم، ولولاه لما كنت أنت بوشه الطبيب البارع، فلأجل من تهوى - ولا بد أنك تهوى واحدة؛ لأنك لم تزل شابا مثلي - تسعى إلى طلاب العلى؛ ولأجلها تمتاز عن الجماد، لا تؤاخذني على هذه السماجة في التعبير.
فأعملت الفكر في هذه الفلسفة المختصرة وقلت: صدقت، ما الإنسان إلا حيوان يحب، وما الحيوان بلا حب إلا حجر أصم، فلست أهزأ بك يا عزيزي، ولكني ابتسمت لتمنيك. إني أحترم حبك. - تبتدئ قصتي مع إيفون بحادثة نزق وطيش، وسترى أن النزق يكون أحيانا فال الخير؛ فلذلك النزق أنا مدين بحب إيفون.
ثم شرع موريس يحكي حكايته، وأنا أسمعها صامتا إلا نادرا، قال ...
الفصل الثالث
صفحة غير معروفة