وليس شك أنه كان بعد أن يعود إلى غرفته، يندم على ضعفه ويحاول أن يكف، لا بل أن يربي نفسه من جديد، فيخرج من درج المنضدة المشرط والأديم كي يصنع حذاء سخيفا ركيكا لأحد الفلاحين. وما أعتقد أن حملته على شكسبير كانت إلا تفريجا عن إحساسه بالخطيئة التي كان يرتكبها هو بانغماسه في الفن، فإن شكسبير كان فنانا عظيما، وكان تولستوي فنانا عظيما أيضا، وقد رأى صورته في شكسبير فلعن في شخصه هذا الشاعر الإنجليزي العظيم، وهو إنما كان يلعن نفسه ويحاول التخلص من هذه المتناقضات التي كانت تحطم أعصابه. وأي تناقض أكبر من هذا الانفصال بين ناس يعيشون في ترف الفن يؤلفون الأشعار والقصص، وبين الملايين الكادحة التي تحيا بلا حياة وبلا فن؟ إن عقولنا تزداد فطنة وبصيرة حين نتعمق حياة المؤلف ونسأله من أين لك هذا؟ من أين لك هذه الأفكار؟ وما هي الأحداث التي نزلت بك ثم أنتجت هذه الأفكار في مؤلفاتك؟ ومن أين لك هذا الأسلوب؟ وما هي العلاقة بينه وبين مكانتك الاجتماعية؟ هل أنت مع الشعب تخاطب الشعب بلغته؟ أم أنت في مكانة اجتماعية عالية تعلو على الشعب فتتعالى عليه بأسلوبك؟
إني حين أجد مؤلفا يبغض التعصب الديني ويكافح الغيبيات ويدعو إلى مذهب العقليين، ويقول بضرورة الاشتراكية، أسأل: هل هو فرد في طائفة من طوائف الأقليات تعاني ضغطا اقتصاديا أو اجتماعيا بحيث يحب هذه المبادئ وينقلها إلى الوجدان الفني؟ أليست علة ذلك أنه قد أحس أن الغيبيات تفصل بين البشر، وأنه لذلك بشري العقيدة اشتراكي المذهب؟
واعتقادي أنه إذا كان رجل السياسة مكلفا أن يجيب عن سؤالنا: «من أين لك هذا؟» بتقديم الحساب المفصل عن ممتلكاته، فإنه يجب على الأديب أن يجيب عن مثل هذا السؤال بأن يكتب تاريخ حياته حتى نفطن إلى البواعث ونتعمق الأسرار ونتربى ونستبصر بكوارثه. •••
ولكن هناك من المؤلفين والمفكرين من لا يحوجنا إلى مثل هذا السؤال؛ لأن حياتهم مكشوفة، وقد كشفوها هم بأعمالهم أو كفاحهم؛ ولذلك نحن نقرأ سيرتهم في هذه الأعمال أو هذا الكفاح لنسترشد ونتعلم ونقتدي، فضلا عن النور الذي نستضيء به من مؤلفاتهم، وهذا هو الشأن في ألبيرت شفيتزر.
هو مؤلف في الأدب والاجتماع والفلسفة والمسيحية قد استطاع أن ينير الأذهان ويهذب الحيوان في الإنسان، ولكنه زيادة على المؤلفات قد عمل وكافح، حتى إننا لنجد في هذا الكفاح ما يغنينا عن قراءة مؤلفاته، كما نجد في كفاح غاندي ما يغنينا عن مؤلفاته.
قضى شفيتزر قرابة أربعين سنة وهو في «لا مبارينيه» في سنغال الفرنسية بأفريقيا الغربية يعالج أمراض الزنوج بالمجان، ويجمع لهم التبرعات من أوروبا وأمريكا، وقد بنى لهم مستشفى وأعد له كل ما يحتاج إليه من عتاد صحي وعلاجي إلى الأطباء الذين أقنعهم بترك أوروبا والرضا بالعيش لخدمة المرضى من الزنوج في شمس أفريقيا المحرقة، وكان هذا عملا جليلا أرصد له حياته وعاد إلى بلاده وهو أعمى إذا لم تتحمل عيناه شمس أفريقيا، ولكنه عاد بعد أن أنجز وعد حياته كما ينجز أحدنا وعدا من وعود المجد والشرف والإنسانية. وهو يقيم هذه الأيام (عام 1951) في قريته القريبة من «استراسبورج» ينتظر الموت بعد أن جاوز الثمانين.
كان ألبرت شفيتزر صبيا ألمانيا نشأ في أسرة ألزاسية حيث تتاخم ألمانيا فرنسا، وأحيانا تخالطها وكانت نية أبويه أن ينشأ نشأة دينية. وقضى ألبيرت تلمذته والتحق بالجامعة في استراسبورج، وحصل على الشهادة الجامعية في الإلهيات، ولكنه طوال دراسته يكب على الموسيقا دراسة ومرانة، ونبغ في العزف على الأرغن، وهو أكبر آلة موسيقية لا تخلو منها كنيسة كبرى في أوروبا. واحتضان الكنائس للموسيقا قد رفع من قيمة هذا الفن وأكسبه الاحترام الذي لا نجده للأسف في بلادنا. وكان يحصل من العزف في الكنائس على أرباح كبيرة، وذاع اسمه حتى كانت الكنائس الكبرى تدعوه في الأعياد والحفلات، وله مؤلفات عن باخ وعن الموسيقا تعد صفحاتها بالآلاف.
وإلى هنا يتساءل القارئ: رجل حصل على الثقافة وعلى الحرفة وعلى الكسب! ما الذي بقي من حياته يذكر فيؤثر؟
والجواب أن الباقي كان كل شيء، فإنه جحد حياته الماضية كلها وآثر عليها كفاحا إنسانيا يحتاج إلى الدم والدموع؟
فقد تساءل شفيتزر وهو شاب: ماذا أفعل كي أخدم الزنوج الذين سحقهم الاستعمار؛ البريطاني والفرنسي والهولندي والبلجيكي، وكيف أستطيع خدمتهم؟ وأجاب المبشرون بأنه يمكنه أن يرحل إلى أفريقيا حيث يبشر الوثنيين من الزنوج بالمسيحية، أليس هو دكتور في الإلهيات؟ ولكنه أحس مرارة التهكم في هذا الاقتراح، فإنه كان يعرف بل يوقن أن كثيرا من المبشرين كانوا أعوانا للاستعمار، وزيادة على ذلك تساءل هو: كيف نقدم للزنوج تعاليم المسيحيين، وهم قد عرفوا أن هؤلاء المسيحيين الذين تعلموا هذه التعاليم هم أنفسهم الذين ينهبونهم ويذلونهم ويحرمونهم الثقافة والمدنية والعدل والشرف؟ لا، إنه لن يكذب عليهم، ولن يزعم لهم أن المسيحيين المستعمرين أشراف، وإذن ماذا يفعل؟ لقد بلغ الثالثة والثلاثين، وكل ما يحذقه من المعارف دراية ومرانة عظيمتان في فن الموسيقا، وأيضا فقهيات جدلية في المذاهب المسيحية، وإنها لسوف تكون سخرية حقا أن يقصد إلى الزنوج ويعرض عليهم هذه البراعات، لا إنه لن يفعل ذلك.
صفحة غير معروفة