كان دستوفسكي يكره الشبان الثائرين على القيصر، وكثيرا ما نجد في قصصه ثائرا أو أكثر يستهزئ بأفكارهم ويسخر من عقائدهم، ولكن كراهيته لهم لم تكن تستند إلى حبه للنظام الاستبدادي الذي كان يسود حكومة القيصر ويوجهها، وإنما كان يكره أوروبا أيضا لهذا السبب، وقد دعا إلى مقاطعة الثقافة الأوروبية في الوقت الذي كان يدعو فيه تورجنيف إلى اعتناقها.
وعندما نتعمق أقوال دستوفسكي لا نتمالك الإحساس بأنه يكره العلوم المادية جميعها، ويكره الحركات الاجتماعية الارتقائية القائمة عليها، وأن في نفسه شوقا ملحا إلى أن يعيش الناس في إيمان بالله قانعين بكلمات الإنجيل التي يجب أن تكون الأساس الذي تنبني عليه الأخلاق، وقد عجز دستوفسكي عن أن يفطن للحقيقة الأوروبية البازغة وهي أن الأوروبيين قد شرعوا منذ أوائل القرن التاسع عشر في استبدال الرؤيا البشرية للرقي والأخلاق والدين برؤيا الكنيسة، وأن الإحساس الديني البشري الجديد، على الرغم من أنه لا يزال ضعيفا، يجد أنصارا أقوياء يسلكون في حماسة وحب للبشر، ويخدمون ويضحون للإنسانية.
ولكنه فطن إلى أن علما بلا دين هو دمار بشري عام ، بل نستطيع أن نقول إنه بصر بقوة العلم الطاغية في القنبلة الذرية التي يخرج بها طيار يشرب كأسا من الكونياك في نزق ومجانة، ثم يقتل ثمانين ألف إنسان في ثانية، ويعود ضاحكا إلى معسكره كما حدث في هيروشيما في أغسطس من عام 1945.
بعد أن قضى دستوفسكي مدة عقوبته في سيبيريا وأفرج عنه كتب إلى السيدة فون ويسين خطابا جاء فيه:
ومع ذلك فإن الله يمتعني أحيانا بلحظات من الهدوء الكامل، وفي هذه اللحظات أجد الإيمان الذي يتجلى لي فيه كل شيء في وضوح وقداسة، وإيماني هذا في غاية البساطة، وهو أني أعتقد أنه ليس هناك ما هو أروع وأحب وأعقل وأشجع وأكمل من المسيح، وليس هذا فقط بل إني لأقول لنفسي في إحساس المحب الغيور إنه لا يمكن أن يكون هناك شيء أكثر من هذا، وهو أنه لو أن أحدا قال لي: المسيح يجافي الحق، ولو أن هذا القول كان صحيحا، لآثرت البقاء مع المسيح على التزام الحق.
وقصص دستوفسكي جميعا تنشد الإيمان الذي يستطيع أن يستقر به الإنسان على هذه الدنيا حتى ولو كان هذا الإيمان يخالف منطق العيش وأسلوب البحث العلمي، وقد وجد دستوفسكي حافزا عظيما للاعتماد على الإيمان، هو هذا الاختبار المؤلم حين وقف أمام الجنود ينتظر إطلاق النار، فإنه بقي طوال عمره بعد ذلك ينظر إلى الحياة من موقف الموت، وهو موقف جدير بأن يغير النظرة والنبرة للحياة معا، وواضح أنه لم ينسه بتاتا في كل ما كتب.
وأكاد هنا أقول إن الدين ليس شيئا آخر سوى النظر إلى الحياة من موقف الموت، فإن الموت أكبر حقيقة بشرية، وهو عندما نتأمله نجد أنه يغير القيم والأوزان ويحيلها من التقدير الاجتماعي إلى التقدير البشري، فنحن في هرولة الحياة الاجتماعية نتعب ونلهث لأجل الثراء أو الوجاهة أو ننساق في أنانية بشعة، لا نبالي مصالح الغير، ولا نرحم من ندوسه في سبيل الاقتناء أو التغلب، وكلنا على هذه الحال بدرجات متفاوتة، ولكن فكرة الموت تنقدح فجأة في أذهاننا فنقف في طريق الحياة ونتساءل عن نهايته، وهذا وجدان أكبر الوجدان بالحياة التي تتخلص عندئذ من ملابساتها الاجتماعية، وعندئذ نحس كما أحس دستوفسكي، بل كما يعلم ويكرر في جميع قصصه، إننا نحن بنو البشر كيان واحد قد تعددت أجزاؤه وانفصلت، ولكن انفصالها لم يمنع بينها التراحم والحب والحنان، فكلنا عندئذ بعد تأمل الموت، أب وأم وأخ لأبناء البشر جميعا.
وهذا هو إحساس المسيح، وغاندي، وتولستوي، بل فولتير، وروسو، وشفيتزر بل كل إنسان استطاع أن يقف عن هرولته الاجتماعية ويتأمل حقيقة الموت. أجل، إن تأمل الموت هو كشف ديني، كأني - حين أوقن أني في إحدى اللحظات سأفارق هذا العالم فلا يبقى لي فيه جسم أو اسم أو ذكرى - لا أسأل عندئذ عن هذا الرجل هل هو باشا أو بك؟ وثري أو فقير؟ وهل يملك ضيعة أو أتومبيلا أو قصرا؟ وإنما أسأل عن ميزاته الإنسانية، بل إني لأهتم به وأتأمله كثيرا عندما أعرف أنه يحب الزهور، ويحنو على الأطفال، ويفرح لرؤية الشفق، وتلتمع في ذهنه أشعة الذكاء وشهوة الحرية، ويحس قرابته للحيوان بل للنبات.
إن يقيننا بالانعدام بعد الموت يزيدنا وجدانا بالحياة، وهذا هو إحساسنا عندما نقرأ دستوفسكي، فإن الحياة تصخب حولنا وتكاد تتجمع في بركان تحتبس فيه العواطف ثم تنفجر. ومع أن القارئ لقصصه يحس من وقت لآخر أن إيمانه بالله يتزعزع، هنا وهناك، فإن إصراره على الإيمان يتكرر في لهجة التأكيد والغضب من المنطق العلمي وتفشي المادية الأوروبية، فهل نستطيع أن نفسر ذلك بأن رهبة الموت حين وقف لتلقي النار قد حملته أيضا على التشبث بالإيمان فرارا من معاني القلق والشك والخوف، وجميعها من معاني الموت؟
قد يكون ذلك، ولكن هذا الإيمان قد جعل قصصه تذوب، رحمة وحنانا وإخاء وبرا حتى لنحس ونحن نقرأها هذه الفضائل تسري في كياننا، كما لو كانت بلسما، وترفعنا فوق أنفسنا. •••
صفحة غير معروفة