وقد كان لكتاب البيولوجي فيسمان «الجرثومة المنوية» أكبر الأثر في الإسراف في الإيمان بالوراثة، وقد أفسد هذا الرجل ذهني بل أخلاقي مدة طويلة، ولكن رويدا رويدا تغيرت النبرة في التطور، فبدلا من القول بتنازع البقاء في الطبيعة أثبت كوربنكين أن التعاون، وليس التنازع هو شريعة الغابة، ثم انتهينا في السنوات العشر الأخيرة إلى التسليم بأن الوسط يغير الحي، نباتا أو حيوانا أو إنسانا، وأن هذا التغير الوسطي يعود فيثبت بالوراثة.
ففي ضوء التطورات، وفي تجارب الوسط لا نستطيع أن نسلم بمذهب نيتشه بأن نكون قساة لا نرحم، فالتطور يصبح بالتعاون، والوسط يستطيع أن يغير، ونحن البشر بما وصلنا إليه من معارف بيولوجية نستطيع أن نزيد سرعة التطور بالتنظيم الاجتماعي الذي يحقق الارتقاء البيولوجي. •••
كثيرا ما أعود إلى قراءة نيتشه، لا لأنني مقتنع بمنطقه؛ ولكن لأني أجد سحرا على الدوام في تعبيره وأحيانا في تفكيره، انظر إلى ما يقوله عن الرحمة:
إن الرحمة تناقض الشهوات الحية المنعشة التي ترفع نشاط البشر وتزيد إحساس القوة؛ إذ هي تكرب وتغم، ونحن نفقد حيويتنا حين نمارس الرحمة. وما نفقده من قوة وحيوية بسبب الألم مثلا، يزداد ويتضاعف بالرحمة، حتى ليصير الألم معديا بالرحمة، وقد يؤدي في بعض الظروف إلى أن نفقد الحياة ذاتها، وإذا شئت برهانا على ذلك فاذكر هذا النصراني الذي انتهت به رحمته لأبناء البشر إلى الصليب.
وأيضا تفسد الرحمة شريعة التطور التي تقول ببقاء الأصلح، وهي - أي الرحمة - تستبقي ما كان يجب أن يموت، كما تعمل لمصلحة الذين حكمت عليهم الطبيعة، وهي تضفي على الحياة لونا قاتما بعدد الناقصين الفاسدين الذين نعولهم، وهي تضاعف التعس كما تحافظ عليه، وهي الأداة الأولى لترويج الانحطاط، وهي تؤدي إلى الفناء، إلى إنكار الغرائز التي تنبني عليها الحياة.
وليس شك أن في هذا الكلام هذيانا كثيرا، ولكنه كان هذيانا يسحرني لأول وقعه في نفسي، وأنا خام أخضر في سن العشرين كان يسحر وينبه؛ إذ كان يبعث على المراجعة والفحص عن الأخلاق العامة والتقاليد الموروثة التي كنا نعيش فيها مستسلمين غير متسائلين أو مستطلعين. أو انظر على ما يقوله عن الحياة:
إنما الحياة في صميمها امتلاك واحتياز وإيذاء، ومحق للضعفاء والعاجزين عن التلاؤم والتكيف، وهدف الحي هو إبراز شخصه والتمكن من تأدية وظائفه غير معارض أو معطل.
وهذه المقتبسات التالية هي صورة المجتمع والحضارة كما يراهما نيتشه؛ إذ يقول:
إن نظام الطبقات هو السنة السائدة للطبيعة، وهي سنة لا تستطيع أية قوة بشرية أن تتغلب عليها، ففي كل مجتمع صحيح توجد ثلاث طبقات لكل منها أخلاقه وعمله وما يفهمه من معاني الكمال والسيادة. وتتألف الطبقة الأولى من أولئك الذين يمتازون بالتفوق الذهني على سواد الأمة، وتتألف الثانية من أولئك الذين يمتازون بالتفوق العضلي، أما الطبقة الثالثة فمن المتوسطين.
وللطبقة الأولى ميزة التمثيل للجمال والسعادة والطيبة على الأرض، وأفراد هذه الطبقة يقبلون هذا العالم كما هو، ويستخدمونه بما في مستطاعهم. وهم يجدون سعادتهم في تلك الشئون التي تدمر من هم دونهم في الصعوبات، والقسوة نحو أنفسهم ونحو غيرهم من الجهد ولذتهم في حكم أنفسهم. والنسك عندهم طبيعة وضرورة وغريزة، وهم يتحملون الواجبات الشاقة كما لو كانت امتيازات يمتازون بها، وهم يرتاضون بتحمل الأعباء التي تسحق غيرهم إلى الموت. وهم زبدة الناس وأكثرهم حبا وفرحا، وهم يحكمون عفو طبيعتهم، كما أنهم ليسوا أحرارا في أن ينتظموا في الصف الثاني.
صفحة غير معروفة