وسارع داروين إلى إبلاغ الهيئات العلمية في إنجلترا عن رسالة وولاس، وشرع هو أيضا يؤلف كتابه «أصل الأنواع». ونستطيع أن نتخيل داروين في حزنه ونزاهته معا، ولكن وولاس بعد ذلك بسنين اعترف بأن العالم كسب ولم يخسر بتزعم داروين لهذه النظرية؛ لأنه كان أوفى منه معرفة وأنصع بيانا وأدق منطقا. وأخرج داروين كتابه «أصل الأنواع» في عام 1859 فتغيرت الرؤية والرؤيا البشريتان.
وكثير من النظريات التي غيرت التفكير البشري تبدو غاية في السهولة والبساطة، حتى ليتساءل الناس: كيف جهل السالفون هذه النظرية على وضوحها؟ فإن داروين يتحدث عن الحمام والكلاب وغيرهما مما يربيه الناس، وكيف استطاعوا أن يخلقوا العشرات والمئات من السلالات الجديدة، وما استطاعه الإنسان في مئات السنين القليلة فقد استطاعته، وأكثر منه، الطبيعة في ملايين السنين الماضية، حتى أخرجت الأنواع فضلا عن السلالات. فهناك، في الغابات والبحار والسهول، إنتاج محدود من الطعام، ولكن هناك توالدا يتضاعف بين الحيوان والنبات، ولا يمكن أن يكفي الطعام هذه الملايين بل ملايين الملايين من النبات والحيوان، فلا بد إذن من أن تتنازع الأفراد لأجل البقاء؛ أي لأجل الحصول على الطعام. وقد يكون السبب للتفوق في هذا التنازع ثم البقاء خفيا هو كما في النفس الأخير، في الثواني القليلة، في صراع يدوم الساعات، أو في القدرة على الجوع أو العطش، أو في طرق الحماية للنسل، أو في القدرة على التطفل، أو في الجراءة والبطش.
وما دام كل فرد يولد مختلفا عن الآخر في الحيوان والنبات، فإن هذا الاختلاف ينطوي بلا شك على ميزة أو عجز، فهو يساعد في الحال الأولى على البقاء والانتصار في معركة الحياة، وهو يهيئ الهزيمة في الحال الثانية، ولا نعرف الأسباب لهذا الاختلاف، ولكننا نشاهده ونسلم به، ولذلك لا بد أن يستمر التغير جيلا بعد جيل، فإذا تراكمت التغيرات أحدثت السلالات الجديدة، وإذا زاد الاختلاف بين السلالات ظهرت الأنواع الجديدة.
وعلى هذا يجب أن نسلم بأن الأحياء، نباتا وحيوانا، ليست الآن كما كانت قبل مليون أو مائة مليون سنة؛ لأن التغير والتطور هما طبيعتها. ونستطيع أن نستنتج أنه ما دام لنا تاريخ ماض في التطور فسوف يكون لنا تاريخ قادم أيضا تتغير فيه الأحياء.
وهذه هي الدلالة الخطيرة التي انتهى إليها قراء داروين، وهي أن الحياة في بوتقة لم تتجمد قط، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصر مركباتها، وهذا هو التوجيه الجديد الذي سدد داروين عقولنا إليه ونحن في بداية هذا، هو التوجيه الذي يخشى كثير منا دلالته؛ لأنه يحمل في طياته مشروعات بشرية خطيرة، ولأنه يضع النظام المادي للإنسان والحيوان والنبات مكان النظام الغيبي.
لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور، ونجح إلى حد ما في هذا التعليل، ولكنه لم ينجح كل النجاح؛ وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع؛ تنازع البقاء. وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
ونحن نعرف الآن كثيرا؛ أي أكثر مما كان يعرف داروين، ولكن لداروين فضل التوجيه وتعيين الخطط للبحث، وأنه زودنا برؤيا بشرية جديدة، وأطلق أذهاننا من أغلال العقيدة إلى حرية البحث والدرس، فقد نقلت نظرية التطور من الأحياء في الطبيعة إلى الناس في المجتمع، وصار من المألوف أن نجد دراسات منظمة عن الأخلاق والأديان وفق النظرية التطورية، ما كنا لنراها لولا داروين، وانبسطت للبشر آمال في المستقبل، وتغير معنى الارتقاء البشري؛ لأننا نقلنا هذا المعنى من وسط الإنسان إلى الإنسان نفسه، كما أصبح التطور فنا نمارسه في إيجاد سلالات جديدة من القطن أو القمح أو الفاكهة. وقد اجترأ هتلر وأعوانه على أن يفكروا في سلالات بشرية جديدة.
ويجب ألا يعمينا الاستغراض الديمقراطي عن هذا الابتكار النازي الذي دعا إليه هتلر، فإن نظرية التطور لا بد أن تخرج من التفكير إلى التطبيق ... بل هي كذلك الآن، ومنذ مئات السنين في حيواناتنا ونباتاتنا، ونقلها إلى النوع البشري لن يعدو وثبة كبيرة. •••
أراني بعد كتابة ما تقدم أني التفت إلى شخصية داروين وتحليلها أكثر مما التفت إلى تحليل نظريته ودلالتها؛ ولذلك أحتاج إلى الإشارة إلى التنقيحات التي طرأت على هذه النظرية، وأولها وآخرها هو الرجوع إلى لا مارك: «إن الصفات المكتسبة تورث.» وداروين نفسه لم ينكر هذه الوراثة ولكنه لم يبرزها كما أبرر «تنازع البقاء وبقاء الأصلح» ومع أن داروين التفت كثيرا إلى الدواجن، وكيف أن الإنسان استطاع أن يخرج مئات السلالات من الحمام والدجاج والكلاب والخيول، ومع أنه نقل هذا المنطق من الإنسان إلى الغابة، باعتبار أن تنازع البقاء يحيي ويبيد، ويقف من النبات والحيوان موقف الإنسان في اختيار الصفات التي تعمل لبقاء الأفراد، فإن الموقف البيولوجي ينكر هذه الأيام قيمة هذه المقارنة بين التنوع في الدواجن والتنوع في الأوابد؛ ذلك لأن المشاهدة تثبت أن التنوع في الطبيعة قليل جدا أو يكاد يكون معدوما، كما يثبت أن ما أحدثناه نحن البشر من التنوع في الدواجن إنما هو عن بعيد مصلحة هذه الدواجن، وهو أشبه بالمرض منه بالصحة وقد أحدثناه بحياة غير طبيعية لهذه الدواجن؛ ولذلك نحن ننزع هذه الأيام إلى «داروينية جديدة» تعتمد على أن عادات الآباء يرثها الأبناء حتى إذا تراكمت أوجدت العضو الذي يؤديها، كالجمل الذي عاش في الصحراء وكان يحتاج إلى أن يبرك على الحصا الذي يجرح جلده، فتضخم الجلد في أمكنة الملامسة وأصبحت هذه الخاصة وراثية، وكاللجاة (التي كانت مثل السلاحف على اليابسة) احتاجت إلى السمك طعاما فنزلت إلى البحر، وما زالت تمارس السباحة حتى استحالت يداها إلى زعنفتين ... إلخ. •••
ولا أعرف كاتبا تأثرت منه أكثر مما تأثرت من داروين، فإنه أعطاني القلب الذي أزن به أحيانا، وأحيانا أهدم به التقاليد، وجعل التطور مزاجا تفكيريا ونفسيا عندي، بل جعله عقيدتي البشرية التي تنأى عن الغيبيات. وقد أصبحت أقيس الأمم بمقدار تطورها، وأقيس آمالي الاجتماعية بمقدار ما أجد من قدرة على التطور؛ ذلك أن التطور في أساسه منطق علمي، ولكنه قد استحال عندي إلى عقيدة قلبية. وإذن يجب أن أعد داروين المعلم الأول الذي علمني.
صفحة غير معروفة