وجمهور القراء يعرف أدب جيته، ولكن قليلا منهم من يعرفون أبحاثه العميقة في العلوم، فإن له مكتشفات في الجيولوجية والبيولوجية والبصريات، وقد سمي نوع من الصخر باسمه برهانا على فضله في الجيولوجية. وكان كبير الاهتمام بأصل الأنواع، وهي المشكلة التي أرصد «داروين» بعد ذلك حياته لحلها. وقد استطاع جيته أن يكشف عن أن المخ هو امتداد للنخاع الشوكي. ومما يذكر عنه عقب هزيمة نابليون أنه قدم إليه نبيل ألماني، فسأله عن رأيه في الزعزعة الجديدة التي تعم أوروبا، فأجابه النبيل بأن «الخلفاء» قد أساءوا السياسة في مؤتمراتهم وأن نابليون ...
ولكن لم يكد النبيل يتم جملته حتى صاح به جيته: أنا لا أسأل عن هذا، لست أبالي هذا، إنما أسأل عن هذا الخلاف بين سانت هيلير وكوفيه ولا مارك عن أصل الأنواع وتطورها.
وكان هذا الموضوع يزعزع نفس جيته، وكان يهتم به أكثر مما كان يهتم بالسياسة الأوروبية التي زلزلها نابليون، ومن هنا اهتمامه بترتيب الحشرات وتشريح الضفدع والطاقة الكهربية ... إلخ. •••
ومن الخطأ أن يقال إن جيته كان يهتم بالآداب والعلوم؛ لأن اهتمامه الأول كان بالحياة، فكان يحب ويختبر ويسيح ويملأ المناصب الحكومية. بل إنه لم يجعل الأدب أو العلوم هدفه؛ لأن الهدف الوحيد الذي سدد إليه نشاطه هو شخصيته؛ وتعبيره حين كان يقول: إنه يبني «هرم» شخصيته، يدل القارئ على أن الثقافة كانت عنده وسيلة وليست غاية.
وإذا كان لكل كاتب عظيم رسالة، فإن رسالة جيته لم تكن الشعر أو القصة أو العلوم، وإنما كانت الشخصية باعتبارها التحفة الأولى للإنسان المثقف الذي يحيا حياة الوجدان والعقل. ومن هنا كلمة «برانديس» الأديب الدنمركي: إن حضارة الأمم تقاس بمقدار تقديرها لجيته.
والمعنى أن الأمة التي ارتقت في ثقافتها إلى المرتقى الذي تستطيع أن تفهم فيه أن رسالة الحياة هي الحياة نفسها، هي الأمة الراقية، أما إذا كانت تجعل الحياة وسيلة لأي نشاط أو هدف آخر، مثل الثقافة أو الصناعة أو الثراء أو غير ذلك، فهي غير راقية، بل إننا حين نقول إن الحياة هي الهدف، إنما نستوعب بهذا التعريف جميع الألوان الأخرى للنشاط البشري، ونستوعبها مع ذلك في تناسق يتفق والحياة العالية.
وستبقى قيمة جيته خالدة على هذا الأساس، وهو أننا يجب أن نحيا حياتنا في تعلم واختبار واستمتاع.
ولد جيته في سنة 1749 ومات في سنة 1832، فعاصر روسو وديدرو وفولتير ودالمبير، هؤلاء النجوم الذين أحدثوا النهضة الأوروبية الثانية. ثم رأى مخاض العصر الجديد في الثورة الفرنسية، وفي شهابها الساطع نابليون، ورأى - عقب هزيمة نابليون في عام 1815 - المؤتمرات الأوروبية تومئ إلى الاتحاد الأوروبي بل لقد رأى هذه الفكرة تختمر أيام نابليون.
أجل إنه عاش في عصر عاصف، ولكنه لم يترك العواصف تمر به وهو جامد، بل استجاب لها وتفاعل معها. وقد درس القانون في الجامعة، وعرف دوق فيمار الذي أحبه وعينه وزيرا لهذه الدوقية الصغيرة، ولم يقبل جيته هذا المنصب لما فيه من أبهة؛ وإنما قبله لأنه وجد فيه وسيلة للتدخل في السياسة الأوروبية وفهمها. وزار إيطاليا، فعرف فيها جمال الشمس وجمال الفن، وتزوج واستمتع بمسرات العائلة كما كابد همومها، ومارس الزراعة واقتنى ضيعة. وأشرف على المسرح وأحب فتاة حبا كان يحمله على البكاء وهو في السبعين. وكان مفراحا يحب الاجتماع. ولكن هذا المزاج الفرح كان أحيانا - كما هو الشأن فيه - يحمله على الاعتزال والاعتكاف، ولكن أوقات نشاطه وإلهامه كانت تنحصر في أيام الفرح والاجتماع. •••
من علامات النضج في الإنسان أن يميز بين المعارف والحقائق؛ إذ ليس كل ما نعرف حقيقيا، وأن يجمع معارفه واختباراته في فلسفة أو دين؛ أي يستخرج العبرة البشرية والسلوك الأمثل مما عرف واختبر. وأن يعتاد استخراج الكليات من الجزئيات بحيث لا يشتغل بالشجرة قدر ما يشتغل بالغابة. وأن يحس حركة التاريخ في كل يوم من أيامه. وأن يكون على إحساس واتصال بالدنيا، هذه الدنيا، وهذا الكون. وأن يكون قد وصل بما لديه من حقائق وبما تربى عليه من تفكير في الكليات إلى تفاؤل بمستقبل البشر، فالرجل الناضج هو الرجل المتفائل، وتفاؤله يحمله على كفاح ما لمصلحة البشر. والرجل الناضج متدين، يحترم الحياة، وكي نحترم الحياة يجب أن نعمل لرقيها وتطورها إلى أعلى، ومقياس العلو في التطور هو مقياس بشري على كل حال. وقد كان جيته يجمع كل هذه الصفات التي يتكون منها الرجل الناضج. •••
صفحة غير معروفة