فأطرقت عائشة ثم قالت وهي تمد ذراعيها كأنها ترحب بمقدم مكيدة جديدة: لقد وجدت الرأي! لقد وقفت على مفتاح اللغز! الآن أستطيع أن أرى، وأستطيع أن أدبر. ثم اتجهت إلى ابن المكري سائلة: أتستطيع أن تدعو ابن زيدون إلى دارك غدا؟ - هذا سهل يسير، وهو الآن يكثر من زيارتي لتوثق الصداقة بيننا. - حسن. ادعه غدا للعشاء، وادع معه من يحب من خلانه. - ثم؟ - ثم تذهب الآن إلى ابن جهور، وتطلب إليه أن يزورك غدا في دارك مستخفيا، ليتحقق من خروج ابن زيدون عليه ونكثه لعهده.
ثم؟ فابتسمت عائشة وقالت: ثم تتحادثون بعد العشاء، فتسمعون جلبة وضجيجا بين عبيدك وغلمانك، فتسألون عن جلية الخبر، فيخبركم أحدهم بأن ابن جهور قبض على ولادة لأنها كانت تخفي في قصرها ابن المرتضى الأموي. - ثم؟ - ثم إني أعرف الناس بأخلاق ابن زيدون، فإن الحزن والغضب سيدفعانه إلى أن يكشف عن ذات نفسه، وإلى أن يقذف بألفاظ يحبسها في صدره الخوف والحذر، فإذا سمعها ابن جهور لم يتردد في التنكيل به وإراحتنا منه ومن كبره وغروره.
فقال ابن عبدوس: أخشى ألا يكون حسابك مستقيما. - إني إذا فكرت بإمعان وهدوء استطعت أن أقرأ المستقبل كأنه صفحة من الماضي. ليس عندي شك في أن ابن زيدون سيقع في الفخ.
فقال ابن المكري: حسن. سأذهب الآن إلى ابن جهور. فصاح ابن عبدوس: إذهب إليه بالوجه الذي لا يرى فيه أثرا للشك ولا لمحة من الريبة، وإذا وفقت فسوف تراه غدا في دارك.
وأسرع ابن المكري نحو دار الجماعة، وقابل ابن جهور، ولبث في حضرته طويلا، فلما انتهى الحديث، واتجه نحو الباب صاح ابن جهور: إني لست ألعوبة يا فتى! فإذا كنت في شك من أمرك فارجع عما قلته قبل أن تجاوز الباب. - أنا واثق يا سيدي. - عظيم. إن سيفي غدا سيطيح أحد رأسين، فاحذر أن يكون رأسك هذا الأحد. إذهب.
وجاء الغد، وانطوى نهاره فغشي قرطبة وأهلها ليل حالك الإهاب كأنه حظ الأديب، أو صحيفة الزنديق، ليل رآه قوم موطن الصبابة واللهو والطرب والمجون، ورآه آخرون باعث الأحزان ومثير الأشجان والهموم. شمل الليل قرطبة، وأخذ الناس يضطربون فيما يضطربون فيه كل ليلة، واجتمع ابن زيدون وبعض صحبه بدار ابن المكري، وقصد إليها ابن جهور ووزراؤه وصاحب شرطته وأعوانه مستخفين متنكرين، فجلسوا في حجرة إلى جانب حجرة الضيوف. ومدت الموائد فنال منها القوم ما اشتهوا، ثم أخذوا في الحديث، وكان ابن زيدون في هذه الليلة كثير التفكير كثير الذهول والقلق، يغتصب منه أصحابه الكلمة اغتصابا، ويغرونه بالنوادر والأفاكيه فلا يظفرون منه إلا بابتسامة فاترة واهنة، وبينما القوم يسمرون إذا ضجيج بين الخدم ولغط وجلبة، فنادى ابن المكري كبير العبيد وسأله في استنكار وتأنيب: ما هذا يا رباح؟
فظهر التردد على وجه العبد وقال: لقد أخبرنا الآن أحد أعوان صاحب الشرطة بأن مولانا عميد الجماعة قبض على سيدتي ولادة، ووكل بها طائفة من الجند يعذبونها أشد أنواع العذاب.
فارتعد ابن المكري وقال بصوت كاد يخنقه الغضب: يعذبونها؟ لم يعذبونها؟ - لأنهم وجدوا مولاي ابن المرتضى بقصرها. فوقف ابن زيدون مذعورا والغضب ينفخ أوداجه وصاح: هذا كذب صراح؛ إن ابن المرتضى لا يختفي بقصر ولادة؛ أنا أعرف مكان اختفائه. إن ولادة بريئة من كل ما يتصل بابن المرتضى إنها وشاية نمامين. إن ابن المرتضى في داري، وسأذهب فأخبر ابن جهور بهذا حتى يكف زبانية عذابه عن أشرف امرأة، وأطهر امرأة بقرطبة.
وهنا فتح باب الحجرة، ووقف ابن جهور في وسطها كأنما نبع من أرضها، وصاح بصوت يشبه هزيم الرعد: ولم تخف ابن المرتضى في دارك يا منبع الدسائس؟ لم تخفه إلا لتشعل به فتنة تبدد الجماعة وتفرق الكلمة. لقد كنت أرى آخرتك منذ عرفتك، وكنت أتجاوز وأغضى حتى أصل إلى وجه الحق. الآن صرح
5
صفحة غير معروفة