فتأوه ابن زيدون واضطرب في مجلسه وقال: إن ابن عبدوس كان فيما يزعم لي صديقا، ولكني أقرأ في عينيه الآن الحقد والبغضاء، وأكبر ظني أنه يدس لي عند ابن جهور. - كيف يا أبا الوليد؟ - لا أدري. ولكني منذ عودتي من بطليوس لم أجد ابن جهور كعهدي به. - هذه دسائس الأندلس! فانظر هل عصف بمجدنا، وقطع مملكتنا أجزاء، وأغرى بنا ملوك الإفرنجية إلا التحاسد والتباغض والأثرة؟ لا تبال يا سيدي، إنهم ذباب لا يملك إلا الطنين. ثم أسرعت إلى ورقة كانت فوق خوان وقالت في إصرار: بحقي عليك يا أبا الوليد إلا ما كتبت إلى ابن عبدوس حتى تستريح داري من شؤم طلعته.
فأخذ ابن زيدون القلم، واختلى بنفسه ساعة، ثم عاد يقول: استمعي للرسالة يا سيدتي:
أما بعد. أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى في شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب.
فصاحت ولادة قائلة: لو طلبت من الحطيئة أن يكتب إلى ابن عبدوس ما كتب أقذع من هذا! ثم جذبت منه الورقة وأخذت تقرأ حتى بلغت قوله:
فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر. كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء؟ وأنى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها؟ والطير إنما تقع على ألافها؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان.
وهنا قالت ولادة: لقد قتلت الرجل. وإن من السهام كلاما، ومن البيان موتا زؤاما. ثم مالت عليه وقالت: بالله عليك إلا قلت فيه شعرا، حتى لا ينبض بعد له عرق، ولا يطرد نفس! فجذب ابن زيدون ورقة وأخذ يفكر ساعة، ثم كتب:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض
ونبهته إذا هدا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم
إذا سيم خسفا أبى فامتعض
صفحة غير معروفة