وأعليك من خطرات الفكر
وأحذر من لحظات الرقيب
وقد يستدام الهوى بالحذر
فأحببت غزلك العفيف، وأكبرت أدبك وفنك، فاصدح في أفق الأندلس بلبلا غريدا، وعش للمعجبة بك عائشة بنت غالب.
يذهل ابن زيدون عند قراءة الرسالة، ويخالط نفسه سرور مبهم، ثم يتخيل عائشة التي رآها في دار ابن عبدوس وفي السفينة، فيراها صورة من النبل وكرم الخلال، ويرى أنها كما يبدو من رسالتها أديبة تقدر شعره، وتتابع منه ما يذيع بين الناس، والشاعر أفتن الناس بشعره، والإشادة بما يقول أضعف مدخل يلج منه الخبثاء إلى نفسه. سر ابن زيدون بالرسالة فأسرع يشكرها عليها، ويثني على أدبها وحسن تقديرها.
وتذهب هذه الصورة، وتتجمع أشعة جديدة: ويرى ابن زيدون نفسه في ذات أصيل أمام مريم العروضية، وقد جاءت تزوره وتذكر له أن عائشة بنت غالب زارتها في الصباح، وطلبت منها في إلحاح آخر قصيدة له، ثم تتجه إليه باسمة وهي تقول: إنها معجبة بك، مولعة بشعرك، فإنني حينما أخبرتها أنني لا أحتفظ بنسخة من القصيدة، ظهر الأسف على وجهها وقالت ذاهلة: وكيف أحصل عليها؟ فقلت لها إن الأمر أهون من أن يسهم له وجهك الجميل، نذهب إليه يا فتاتي لنستملي القصيدة، وسيكون أسر خلق الله برؤيتك، وأكثرهم زهوا بإعجابك بشعره، ولكنها أطرقت في استحياء وقالت: إنه ليخجلني أن أذهب إلى رجل في داره، فهل من رأي آخر يا خالتي؟ قلت: يذهب هو إلى دارك، فهو رجل سمح الخلق كريم النجار.
2
فقالت متلهفة وجلة: وتكونين معه يا خالتي. قلت أكون معه يا فتاتي، ثم تنظر إلى ابن زيدون وتقول: فماذا ترى يا أبا الوليد؟ فيسمع نفسه وهو يقول: أزورها معك وسرورا وكرامة.
وتتجمع أشعة جديدة: فيرى دارا رفيعة البناء، يدل مظهرها على العظمة والغنى والجاه العريض، وتقبل عائشة في تؤدة وبطء، تتألق البشاشة في وجهها كما يتألق نور اليقين بين ظلام الشكوك، وتمد يدها إليه مرحبة مؤهلة فيحييها في لطف وأدب. ويجلس الثلاثة في بهو رحب، ويدور حديث رقيق الحواشي في الأدب والسياسة، وتزول الهيبة عن عائشة رويدا رويدا، ويتفتح طبعها كما تتفتح الوردة لأضواء الصباح، وتذهب الكلفة، ويحل المرح محل الحياء، وتنثر الفكاهات والملح، ثم تأمر عائشة جاريتها غالية أن تحضر أقلاما وأوراقا، وتجلس جلسة التلميذة المطيعة في تصنع محبب وتقول: أمل علي يا سيدي رائعتك الأخيرة في ابن جهور. فيرى نفسه وهو يملي عليها:
أما علمت أن الشفيع شباب
صفحة غير معروفة