فنظر غالب في أوراق أمامه وأخذ يقلبها ثم رفع رأسه وقال: جاءت هذه الأوراق إلى أبي في الصباح، وكان على وشك أن يبعث بها إلى عبد الرحمن بن الفطيس صاحب الشرطة. - وماذا فيها يا سيدي؟ - فيها المصائب، وفيها ضياع مالك ودمك، فيها يا سيد بترو أنك أفسدت المدينة، وعبثت بأخلاق شبانها، وأبحت الخمر تجري أنهارا في حانتك بعد أن حرمها الخليفة المنصور. إن هذه الشكاة لو وصلت إلى صاحب الشرطة لأغلق حانتك وصادر أموالك ونفاك إلى الشمال.
فاصفر وجه بترو وقال واجفا: أشكر لك يا سيدي هذه الصنيعة، ولا بد أن تكون هذه الشكاة من أحد أعدائي. - نعم هي من أحد أعدائك، وأعتقد أن سبب العداوة إنما جاء من ظهور تلك الفتاة المسماة بفلورندا بحانتك: ورأيي أنهم لا يسكتون عنك إلا إذا صرفتها بأية سبيل. - إنها حياة الحانة وجمالها ورونقها. - وكنزها الذي لا يفنى أيضا. ولكن ما رأيك يا سيد بترو في أن هذا الكنز الثمين سيجر عليك الفقر والوبال والنفي؟ أليس من الخير أن تعيش هادئ النفس كما كنت تعيش، وألا تتشبث بمطمع في هلاكك وذهاب مالك؟ - إنني لا أستطيع أن أستغني عن فلورندا. - حسن جدا، ولكنك سترى حانتك الليلة مغلقة الأبواب إلى الأبد. ثم التفت إلى الأعوان وقال في صرامة: خذوه عني.
فتوقف بترو قليلا مستعطفا وطفق يقول: وكيف أطرد فتاة يا سيدي بلغت قمة الفن والجمال؟ إنني إن طردتها أسرع إليها غيري من أصحاب الحانات بقرطبة. - لا. لن ينالها أحد بعدك، ولن تغني بعد اليوم في حانة. - كيف يا سيدي؟ - لأنها ستعتزل الرقص والغناء بتاتا. - هذا يخفف المصيبة قليلا، هل تنوي أن تعيش مع أبيها؟ - لا. فظهرت ابتسامة خبيثة على وجه بترو وقال: إن أباها مدين لي بألف دينار. - ستنالها منجزة. ثم التفت إلى أحد الحراس وقال: اذهب معه يا أبا عوف إلى دار جارسيا وأبلغني ما سيقوله له، لا تخرم منه حرفا. إنه سيقول له: إنه نزل عن حقه في فلورندا، وأصبح لا يد له عليها. ثم نظر إلى بترو نظرة غاضبة وقال: اذهبا.
وفي المساء ذهب غالب بن أبي حفص مع ثلة من أصحابه إلى دار جارسيا، فتلقاهم بترحيب وبشاشة، وأقبلت فلورندا في جمالها الفردوسي فحيت غالبا تحية فيها أدب، وفيها حب، وفيها أمل خبئ. وكان جارسيا قد صنع صنيعا احتفل له، وبذل فيه عن سخاء، فأعدت الموائد للطعام والشراب، وعليها أنواع الورود والرياحين وكل ما أخرجت أرض الأندلس الخصيبة من فاكهة ونقل، وكان بين ضيوف غالب أبو العلاء صاعد اللغوي، وهو أديب أخباري لغوي شاعر، قدم على المنصور من ديار الموصل فأكرمه وأحسن وفادته، وثابت بن قاسم وهو من أكبر محدثي الأندلس، وفاتن الصقلبي مملوك المنصور.
وملأ أحد السقاة كأسا فلما ملأها بقيت نقطة في فم الإبريق، فلحظها فاتن، وكان يميل إلى معابثة صاعد، ويزعم أنه ينقل الشعر من كتب مجهولة ثم يدعيه، وأنه يبتدع في اللغة كلمات ليست منها، ليظهر لسائله أنه عالم بكل ما غاب عن الناس. فالتفت إليه وقال: هل لك يا أبا العلاء أن تصف لنا تلك النقطة الحائرة في فم الإبريق؟
فنظر إليه صاعد في تحد واستخفاف وقال: وما الذي أعجبك فيها؟ - الذي اعجبني فيها أن تكون خلت من وصفها كتب المشرق!
فقال صاعد في خبث متعمد: لعلها وصفت في كتب الصقالبة! خذ وصفها يا فتى ثم قال:
وقهوة في فم الإبريق صافية
كالدمع مفجوعة بالإلف مغيار
كان إبريقنا والراح في فمه
صفحة غير معروفة