2
وأسبلت جفنيها على عينين تأتلقان بوميض الشباب ثم قالت: إنك لطيف مجامل يا أبا الوليد، وإن لكم أيها الشعراء نمطا في التعبير نعرفه ونعرف أنه محض خيال لا يسكن الحق في بيت من أبياته، ومع هذا نلقي إليه بأنفسنا في غير خوف أو حذر، ونستمع إلى أنغامه في شغف، وندنو منه رويدا مأخوذات، كأنه رقية ساحر. - قرأت في بعض أساطير قدامى الأسبان يا سيدتي: أن الله حينما خلق الجمال وسواه على أبدع صورة وأحسن تقويم، انطلق مع الناس في الأرض يضطرب فيما هم فيه يضطربون ويعيش كما يعيشون لا يمتاز عنهم بميزة، ولا يختص بكرامة.
وبينما كان يشرب من غدير ساكن، إذ رأى خيال وجهه في الماء، فبهر لما راعه من قسامة وجهه، ووسامة طلعته، وإبداع الخالق العظيم في تكوينه، وسخط على الناس لأن لهم عيونا لا ترى، وقلوبا لا تنبض بعاطفة. ثم أخذ طريقه إلى مأواه حزينا كاسف البال، فلما طال حزنه، هبط عليه ملك من السماء فبثه الجمال آلامه، وشكا إليه إهمال الناس إياه، وأن الله وهب له نعمة ولم يخلق من يقدرها ويعرف لها قيمتها. فرق الملك لشكواه، واستجاب الله بعد قليل لدعائه، وخلق في الناس الحب، فتهافتوا على الجمال، وتراموا نحوه، وأخذوا يصيحون حوله بكلام مختلط مضطرب، حتى كادوا يصمون أذنيه. ففر الجمال منهم إلى الغابة فزعا مكدودا، برما بما سمع من صيحات جافية، وأصوات نابية، قد تدل على حب، ولكنه حب عنيف قاس، خلا من الحنان، وأجدب من رقة العاطفة. عاد الجمال يبكي، فهبط عليه الملك غاضبا في هذه المرة وقال: مم تبكي أيها الجمال؟ فأجابه: إنني أبكي لأن الله أنعم علي بنعمة عادت نقمة وشرا مستطيرا، حتى أصبحت أوثر عليها الموت، ليتني كنت دميما، فإني أرى كل دميم يعيش في أمن وعافية. أما أنا فمن الصباح إلى المساء يحيط بي قوم غلاظ عابسو الوجوه، يدقون صدروهم، ويعوون في وجهي عواء الذئاب الجائعة، إن كان هذا هو الحب، وإن كان هذا الصياح اليابس في لغة البشر تقديرا للجمال، فإني في غنى عن هذا الحب، وفي غنى عن هذا التقدير، وأتمنى لو عدت كأول عهدي بين قوم لا قلوب لهم، فقد كنت - على تعس ما كنت فيه - قرير النفس هادئا مطمئنا.
فأشفق عليه الملك، وسأل الله أن يمنح الناس الشعر، فأجاب الله سؤاله، وخلق فيهم الشعر، وخلق معه الغناء والموسيقى، فاتجهت هذه الفنون إلى الجمال في أدب المتوسل، وذلة المستعطف، وأرسلت أصواتها رخيمة صداحة، تصور خوالج النفس ولواعجها في نغم تقف له الطيور في سمائها، وتهتز الغصون في أدواحها. وما كاد الجمال يلقي نحوها سمعه، حتى أسكرته رناتها، وأطربته ألحانها. ومر به الملك وهو مضطجع في ظل زيتونة مهدلة الأفنان، يجري من تحتها غدير هادئ الخطا، يتعثر فوقه النسيم، والشعراء ينشدون، وآلات الطرب تعزف، فقرب من الجمال وقال: لم لا تناديني اليوم؟ فظهرت الحيرة على وجه الجمال وقال: لقد ناديتك يا أخي مرتين، فلم أرد أن أزعجك بعدهما، فاذهب إلى السماء موفقا، فالأرض بخير ما لقيت حبا شريفا، وجمالا عفيفا. - هذا عجيب. وقد رأيت في إقليم طالقة، وهو من أقاليم إشبيلية، تمثالا من المرمر لجارية لم تقع العين على أجمل منها، وعلمت أن الأقدمين كانوا يدعونها إلهة الجمال. أما أسطورتك هذه فلم أسمع بها، ثم حدقت فيه النظر وقالت: وأخشى يا أبا الوليد أن تكون من أساطير خيالك، فأسرع ابن زيدون قائلا: لا يا سيدتي، إن بيننا من اليهود من يتقنون الأسبانية، وقد عثروا على آثار كثيرة للقوط في بيت الحكمة بطليطلة بعد هزيمة «لذريق» ومن هذه الآثار كتب في العلوم والشعر والأدب ترجمها اليهود وأذاعوا أسرارها. وبينما هم في الحديث إذ أقبل عليهما الوزير ابن عبدوس، وأخذ بيد ولادة قائلا: ألا تحب سيدتي أن تخرج إلى الحديقة قليلا لتتمتع بأنفاس النسيم في هذه الليلة المقمرة قبل موعد العشاء؟ أنا واثق أنك لا تملين حديث شاعرها أبي الوليد، ولكننا نترك في الكأس بقية إلى ما بعد العشاء.
وقامت معه ولادة وهي تنظر إلى ابن زيدون نظرة مبهمة، فيها اعتذار، وفيها ألم وإشفاق.
سارت ولادة وابن عبدوس فانطلقا مع الضيوف هنا وهناك في أفناء الحديقة يتجاذبون أطراف الحديث، ويتناقلون الأفاكيه والنوادر في مرح وابتهاج. وجلس ابن زيدون وحده مطرقا وقد لعبت به هواجس نفسه، وعصفت به لواعج حبه: أين أنا؟ وأين كنت؟ ومن هذه التي كانت بجانبي حتى أخذها هذا المنحوس الطلعة، الأغم القفا، الوغد المأفون؟ أهذه ولادة؟ ولادة بنت المستكفي التي صورها الله للجمال مثالا، وجعلها للظرف عنوانا. ولادة التي تأنقت القدرة الإلهية في خلقها لتكون نموذجا لما أعد الله للمؤمنين من ثواب في جنات النعيم، ومعنى مجسما لما حاول الشعراء أن يبوحوا ببعضه فوقف بهم الخيال، وضاق النظم، وعجزت القافية؟ وأين أنا منها؟ أين منها ذلك الشاعر التائه المضطرب، الذي أضاع ردحا
3
من شبابه في غزل كاذب، ونعيم موهوم، وأبواب الجنة منه على قيد خطوات، وحوراء الفردوس في دار تكاد تصاقب داره؟ إني رأيت في عينيها حبا ملائكيا طاهرا، كاد يحترق له قلبي، وسمعت في صوتها رنة عذبة سحرت لبي. فهل أنا محب محسوب؟ هل أنا بهذا الجمال قمين؟ وقل تقبل الجنة علي هكذا مرة واحدة من غير أن أخوض إليها المكاره؟ وهل يسعى إلي هذا الحسن الفاتن طائعا مرخي العنان من غير أن أقضي فيه ليلة سهاد، أو أسفح دمعة عين؟ إنني لا أكاد أصدق. إن قوانين الدنيا ومناهج الأيام لا تأتي على هذا النحو. إن الدنيا لا تجود بنعيم إلا إذا أخذت من الجهد والكد والتبريح ما يساوي ثمنه أو يزيد، وهي إذا أعطت لا تعطي مرة واحدة هكذا بالهيل والهيلمان،
4
ولكنها تبض بقطرة قطرة، حتى تفسد معنى العطاء والإحسان. لا. إنني مخطئ. إنني مخدوع. إنها لا تحبني. وأنا رجل مغفل سريع إلى الحكم، وثاب إلى التشبث بالوهم. إنها فتاة مهذبة كريمة النجار، مرهفة الذوق، رأت رجلا شاعرا مغرورا، فأرادت أن تجامله وتلاطفه وترفق به، فابتسمت له، وأطالت معه حبل الحديث. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر منه ولا أقل، وهذا هو شأن النفوس النبيلة، تعطف على الغر الجاهل المتبجح من أمثالي. أما أن أقول إنها تميل إلي، فأمر مضحك.
صفحة غير معروفة