بني جهور أحرقتم بجفائكم
حياتي ولكن المدائح تعبق
تعدونني كالعنبر الورد إنما
تطيب لكم أنفاسه حين يحرق
وطالما همت ولاده باللحاق به بإشبيلية تحت ستار الليل، فكان ابن عبدوس يفشي سر مؤامرتها، ويحول بينها وبين السفر.
عاش ابن زيدون بإشبيلية سنوات قلق النفس مضطرب الخاطر، لم ترتح نفسه للمعتضد وإن أغدق عليه، ولم يطمئن له قلبه وإن توالت مواهبه، لأنه كان من الصنف الذي يعطي من غير أريحية، ويبتسم من غير حب، ويسأل عنك من غير شوق، ويجاملك في غير مودة. صنف تشعر وأنت تجالسه بأنك تحت كابوس مخيف لأنه يراك دونه، ويريد أن يكون لطيفا، ويريد أن يكون ظريفا، ولكن شتان بين الخلق والتخلق، وشتان بين الروح الخفيفة المرحة والروح التي تريد أن تكون خفيفة وتريد أن تكون مرحة. ومثل هذا الصنف قد يمدحك وقد يثني عليك، ولكن مديحه يطن في أذنك كما يطن مديح السيد لعبده، وقد يطرح معك الكلفة، ويتبسط في الحديث، ولكنه يحرص دائما على أن يشعرك في غضون كل هذا أنه إنما يتصدق عليك بتواضعه، ويتخذ منك وسيلة للاستراحة من عظمته التي ضاق بها صدره.
لكل هذا أبى ابن زيدون أن يعرض على المعتضد أمنيته التي لاقى في سبيلها عذاب الهون وآلام الحبس والتشريد. أبى أن يدعوه إلى توحيد دويلات العرب بالأندلس لأنه رأى فيه جبارا يضع السيف في موضع الندى، ومتكبرا صلفا لا يدين إلا بسياسة العنف والجبروت، لذلك كتم سره في صدره، ولم يومئ به لأحد لا في صراحة ولا في تلويح. ولم يكن له من سلوى في غربته إلا في محمد بن عباد ولي عهد المملكة، فقد كان شابا طموحا، تزدحم نفسه بالآمال الكبار، وكان إلى بطولته الكامنة مرحا مولعا باللهو والشراب، وكانت له مجالس يجتمع بها ابن زيدون وابن عمار وابن مرتين، وكانت هذه المجالس صورة من العبث الأندلسي الذي قضى على دولة العرب، وأمات في شبانها النخوة والإقدام وصدق العزيمة.
ومرت الأيام، وتعاقبت السنوات، فلحق المعتضد بربه، وشغلت الرهبة منه قلوب الناس عن الحزن عليه، وأكد ابن زيدون قريحته فبضت له بأبيات سقيمة في رثائه. وخلف المعتمد أباه، واستوى على عرش إشبيلية، فاستبشر الناس وتمنوا على الله لو صدقت فيه المخايل. وكان أديبا شاعرا فأقبل على ابن زيدون ووالى عليه نعمه، فملأ قلوب حاسديه عليه حقدا، وتألب عليه نفر كان يحمل لواءهم ابن عمار وابن مرتين، فما برحوا يدسون له عند المعتمد حتى إنهم زينوا لمغنيته «صبح» أن تغنيه:
يأيها الملك العلي الأعظم
اقطع وريدى كل باغ يلؤم
صفحة غير معروفة