بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله أجمعين.
وبعد، فهذه تحقيقات أنيقة، وتدقيقات رشيقة، علقها السيد الجليل، المحقق المدقق، الأجل الأكمل، الأمثل الأفضل، عمدة المتأخرين، زبدة المتبحرين السيد بدر الدين الحسيني العاملي - قدس الله روحه - متفرقة على كتاب الكافي للشيخ الجليل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني - رفع الله درجته - أحببت جمعها لتكون أعم نفعا؛ فإنه إذا كتبت على النسخة متفرقة، وأريد الانتفاع بواحدة منهما تعطل الأخرى، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. (1) ديباجة الكتاب * قوله: بعدما أضدوه (2). [ص 3] أي صدوه بمعنى منعوه حقه من التوحيد.
حاشية أخرى: هو بالصاد المهملة، ولا يجوز أن يكون بالمعجمة، ومعناه [بالمعجمة]: بعد ما أضدوه، أي جعلوا له ضدا.
فإن قيل: كيف يجوز أن يراد منعوه حقه من التوحيد؛ ولابد للمحذوف من دليل يعينه؟
صفحة ٣٣
قلت: الدليل على تعينه قوله: " ويوحدوه بالإلهية " والفقر التي قبلها؛ فإن أول كل فقرة مقابل في آخرها بالضد، وضد التوحيد بالإلهية جعل الشريك له، ويلزمه منع حقه من التوحيد، فهو دليل عليه، ولك أن تجعله من باب جعل الفعل مطلقا كناية عنه متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة كما قالوه في بيت البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه * أن يرى مبصر ويسمع واع. (1) فإنا إذا أثبتنا للخلق منع الخالق لا يتصور إلا بذلك المنع الخاص؛ إذ لا قدرة لهم على سواه كما أنه إذا رأى مبصر أو سمع واعي (2) لم ير إلا آثاره الحسنة ولم يسمع إلا أخباره الجميلة بادعاء الشاعر.
* قوله: بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها [ص 4] " المناهج " جمع منهج، وهو الطريق الواضح، والدواعي جمع داعية بمعنى الداعي، والتاء فيه للمبالغة كالراوية، يقال: أبو معاذ راوية بشار، وأبو مسلم داعية بني العباس، والمراد بالمناهج والدواعي هنا الأئمة الاثنا عشر صلوات الله عليهم، وعنى بتأسيس أساس تلك المناهج ورفع أعلام منارها للعباد النصوص الواردة منه صلوات الله عليه بإمامتهم كنصبه يوم الغدير ونحوه.
حاشية أخرى: وإنما أرجعنا ضمير " أساسها " و " أعلامها " للمناهج والدواعي والمنار ولم نرجعه إلى سبيل الهدى وهي شريعة الإسلام - مع أن التجوز في تأسيس الأساس ورفع الأعلام هنا أقرب منه على الأول، والسبيل مؤنث سماعي - لأمرين:
أحدهما قرب المرجع، والثاني أن جملة " أسس " على تقدير عود الضمير إلى السبيل إما صفة لها، أو حال من المستتر في " دلهم " وفي كل مانع.
أما الأول فإن " سبيل الهدى " معرفة فلا توصف بالجملة، ولام " الهدى " للعهد الخارجي، أعني شريعة الإسلام.
صفحة ٣٤
وأما الثاني فلخلو الجملة المصدرة بالماضي عن " قد "، ولئن حمل على القليل فلا يجوز أيضا؛ لأن العامل في الحال زمانه بعد الرسول (عليه السلام) والحال في حياته فاختلف زمان الحال وعاملها، ولا يجوز أن تكون مقدرة؛ لأن زمانها بعد زمان عاملها وهنا بالعكس.
قوله: وحظر على غيرهم [ص 4] أي حرم على غير أئمة الهدى التهجم، أي اقتحام ما يجهل ذلك الغير، وعود ضمير الجمع باعتبار المعنى. " ومنعهم جحد ما لا يعلمون "، أي حرم عليهم الإنكار لما لا اطلاع لهم على حقيقته ولا علم لهم بوجوه حكمته، وذلك لأمر أراده الله سبحانه من استنقاذ من شاء من خلقه من الفتن النازلة بهم والنازلين بها، فالملمات جمع ملمة [وهي النازلة] و " الظلم " جمع ظلمة والمراد بها الفتن على سبيل الاستعارة، وإضافة " ملمات " إلى " الظلم " من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها. و " مغشيات " جمع مغشية، اسم مفعول من قولهم: كان فلان يغشى فلانا، إذا كان يختلف إليه. و " البهم " جمع بهمة كلقمة ولقم، والمراد بها الفتن أيضا على سبيل الاستعارة، إما لأنها أبهمت عن أن يهتدي للحق فيها، وقيل للأمر المشكل: مبهم؛ لأنه أبهم عن البيان، وإما لخلوصها عن الحق وكونها باطلة محضة (1)، ومن [ثم] قيل للشيء على لون واحد لا شية فيه: بهيم، ومنه الليل البهيم الذي لا كواكب فيه، والإضافة فيها كالتي قبلها.
والفرق بين المراد من الفقرتين أن المراد بالأولى ما ينزل بالإنسان من الفتن والخطوب للفوز بالثواب، أو لتمحيص الذنوب، وبالثانية الفتن التي يأتيها الإنسان للفساد بين العباد والعتو في الأرض من قولهم: فلان لو سئل الفتنة لأتاها.
* قوله: أن يأرز كله [ص 5] إما من قولهم: ليلة آرزة، أي باردة، كأن العلم معهم برد سوقه وبطل رواجه، وإما من قولهم: أرز فلان يأرز أرزا وأروزا، إذا تضام وتقبض من بخله، كأن العلم معهم
صفحة ٣٥
تقبض ومنع من الانبساط والانتشار، فهو كناية عن غلبة الجهل وانتشاره، وقد جاء في كلام [علي (عليه السلام) في] نهج البلاغة: " قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن وأرز المؤمنون ونطق الضالون " (1)، وقال ابن أبي الحديد في شرحه: " وأرز المؤمنون، أي انقبضوا، والمضارع يأرز - بالكسر - أرزا وأروزا، ورجل أروز، أي منقبض، وفي الحديث " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ". (2) أي ينضم إليها ويجتمع.
* قوله: فكانوا محصورين إلخ [ص 6] أي مضيق عليهم.
* قوله: خرج منه كما دخل فيه [ص 7] أي كان خروجه من غير مقطوع به، كما أنه لم يكن داخلا بالقطع فيه، بل مرجئ لأمر الله سبحانه.
* قوله: ومن أخذ دينه إلخ [ص 7] أي من قلد الرجال ربما رده راد؛ لأن استناده في ذلك إلى غير دليل فربما لبس عليه دينه.
* قوله: لم يتنكب الفتن [ص 7] أي لم يعدل عنها.
* قوله: بتوفيق الله جل وعز [ص 7] بأن يلطف به سبحانه.
* قوله: وخذلانه [ص 7] بأن يمنعه لطفه لذميم فعل سبق منه.
* قوله: فمستقر ومستودع [ص 8] قال علي بن إبراهيم في تفسيره: " المستقر الإيمان الذي يثبت في قلب الرجل إلى أن يموت، والمستودع هو المسلوب منه الإيمان ". (3)
صفحة ٣٦
كتاب العقل والجهل * قوله (عليه السلام): لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له إلخ. [ص 10 ح 1] في الكلام في هذا الحديث وأشباهه (1) تصوير وتمثيل لإطاعة العقل وانقياده، تصويرا هو أوقع في نفس السامع وبه آنس وله أقبل وعلى حقيقته أوقف وإن لم يكن هناك نطق ولا إقبال ولا إدبار؛ إذ المفروضات تتخيل في الذهن كالمحققات وأمثال هذا في القرآن والحديث وكلام العرب أكثر من أن تعد وتحصى، وقد نبه عليه في مواضع شتى من الكشاف.
* قوله (عليه السلام): ما عبد به الرحمان الخ [ص 11 ح 3] تصوير للكامل من العقل بلازمه من قبيل قول أبي الطيب:
الحب ما منع الكلام الألسنا * وألذ شكوى عاشق ما أعلنا (2) * قوله: إن عندنا قوما لهم محبة، وليست لهم تلك العزيمة الخ [ص 11 ح 5] أي ليس لهم من القطع بولايتكم والجزم بما خصكم الله - سبحانه وتعالى - به من عظائم ألطافه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن؛ فإن العزيمة من العزم وهو القطع على الشيء والجزم به، ومن أن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ
صفحة ٣٧
بعزائمه، وجملة " يقولون بهذا القول "، أي بإمامتكم، إما عطف بيان من جملة " لهم محبة "، أو حال من المجرور في " ليست لهم تلك العزيمة "، والأول أولى، والأولى جعل الجمل الثلاث صفات ل " قوما " عطف بعضها وترك العطف في بعض آخر.
* قوله (عليه السلام): من كان عاقلا إلخ [ص 11 ح 6] لا شك في هذا؛ فإن العقل ما عبد به الرحمان واكتسب به الجنان.
* قوله (عليه السلام): إنما يداق الله العباد [ص 11 ح 7] هو من التدقيق.
* قوله: فلان من عبادته إلخ [ص 12 ح 8] أي كذا وكذا.
* قوله (عليه السلام): ظاهرة الماء [ص 12 ح 8] من الظهور بالمعجمة، أي ماؤها جار على وجه الأرض.
* قوله: وما لربك حمار [ص 12 ح 8] أي لا يكون له حمار وله ما في السماوات وما في الأرض، يدل على ذلك جواب العابد، أي " لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش "؛ لكنه ضائع، على طريقة (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدت) (1) فالواو عاطفة والمعطوف عليه مقدر، والمعنى: لربك ما في السماوات والأرض وما له حمار؟!
ف " ما " نافية.
* قوله: مبتلى بالوضوء والصلاة [ص 12 ح 10] أي بالوسواس فيهما.
قوله: إن الدنيا بحر عميق إلخ [ص 16 ح 12] شبه الدنيا بالبحر العميق لتلاطم أمواج الفتن والخطوب فيها ثم أمر باتخاذ التقوى فيها سفينة، فإنه كما لا يمكن ركوب البحر وعبوره سالما إلا بالسفينة كذلك الدنيا لا يمكن فيها ذلك إلا بالتقوى، فهي سفينتها، وأمر بجعل الإيمان حشوها، أي ما يحشى فيها وهو المتاع الذي ينقل بالسفينة من مكان إلى آخر للربح والتجارة، ولا ربح حقيقة إلا في الإيمان، فهو أحق بأن يجعل حشو سفينة الدنيا، وأمر بجعل
صفحة ٣٨
التوكل شراعها، والعقل قيمها، أي المدبر لها والقائم بأمرها، والعلم دليلا لها، والصبر سكانها، وهي الخشبة المنصوبة في مؤخر السفينة لتصرف بها إلى الجهة المقصودة.
ووجه الشبه في الكل ظاهر غني عن البيان.
قوله (عليه السلام): وأطعت هواك إلخ [ص 17 ح 12] أي أعنت هواك على أن يغلب عقلك، فالمصدر، أعني غلبة، مضاف إلى المفعول وهو العقل.
قوله (عليه السلام): والتعلم بالعقل يعتقد [ص 17 ح 12] في بعض النسخ " يعتقل " من الاعتقال وهو الحبس، والمعنى أن التعلم، أي المتعلم وهو المعلوم، إنما يعتقل، أي يحبس ويحفظ، أو يعتقد ويستيقن بالعقل، فإن المعنى إذا وعي وفهم على ما هو عليه قلما يزول عن الخاطر، وذلك إنما هو بالعقل ومن لا عقل له كالبهيمة لا يعتقد ولا يستيقن شيئا، والحصر مستفاد من تقديم الظرف.
قوله (عليه السلام): إن العاقل نظر إلخ [ص 18 ح 12] في عطفه (عليه السلام) في الأول " على الدنيا " " أهلها " وتركه إياه مع " الآخرة " نكتة وهي أن المراد بالعاقل من قام به العقل من غير نظر إلى إفراده أو جمعه أو غير ذلك، فإنهم قد لا يكون نظرهم إلا إلى ذات ما قام بها الحدث فيطلقون اللفظ المفرد على الجمع، والمذكر على المؤنث إلى غير ذلك، كما صرح به في الكشاف. فعلى هذا " أهل الدنيا " غير العاقل، فيصح النظر منه إليها وإلى أهلها، وأما الآخرة فأهلها هم العاقل بعينه والإنسان عالم بنفسه لا يحتاج في العلم بها إلى نظر.
* قوله (عليه السلام): واستثمار المال تمام المروءة [ص 20 ح 12] لأنه ربما توصل به إلى مواساة الإخوان.
* قوله (عليه السلام): والفضل جمال ظاهر [ص 20 ح 13] المراد بالفضل هنا الإحسان والتودد إلى الخلق، فإنه جمال ظاهر، فينبغي للعاقل
صفحة ٣٩
أن يستر عيوب نفسه به ويقمع دواعي هواه ويردعها بعقله لتسلم له مودة من وادده (1) وتظهر محبته بين الخلق.
* قوله (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده [ص 21 ح 14] اعلم أن الجهل ليس مقابلا للعقل وإنما هو مقابل للعلم، ولكنه لازم لمقابل العقل وهو عدمه وحيث لم يوضع بإزائه لفظ عبر به عنه ولهذا سيأتي في جند العقل العلم وضده الجهل والشيء لا يكون من جند نفسه.
* قوله (عليه السلام): وهو أول خلق من الروحانيين [ص 21 ح 14] هو بضم الراء جمع روحاني وهو ما فيه روح، و " من " ليست للبيان، والظرف صفة ل " خلق "، والمعنى أن العقل أول مخلوق كائن من ذوي الأرواح، أي منسوب إليهم، فعلى هذا خلق العقل قبل خلق الروح، وكذا قوله: " عن يمين العرش " صفة أخرى له، فالأولى للتخصيص والثانية للتعظيم، و " من " في " من نوره " متعلقة بمقدر يدل عليه " خلق " السابق؛ فإن الفعل كما يدل على المصدر كذلك المصدر يدل على الفعل؛ لأن تعلق الجار إنما هو باعتباره.
ولا يلزم من قوله: " عن يمين العرش " أن يثبت له التحيز وهو مناف للتجرد وقد أثبت أهل العلم تجرده؛ لأنا نقول: قد علمت مما سبق أن العقل المراد هنا غير ما أثبت العلماء تجرده، وبالجملة بأي معنى كان لا يلزم كونه عن يمين العرش؛ لأنا قد أشرنا في أول الباب إلى أن أمثال هذا من باب التصوير والتمثيل، فإنه (عليه السلام) لما أراد أن يظهر شرف العقل صوره بصورة من يجلس عن يمين الملك ولا يمين هناك ولا جلوس، وكذا الحال في القول له: أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، وإضمار العداوة وما ضاهى ذلك؛ فإن المفروضات قد تتخيل في الذهن كالمحققات، وتصور تصويرا هو أوقع في نفس السامع وهي به آنس وله أقبل وعلى حقيقته أوقف، ونحو
صفحة ٤٠
هذا كثير في كلامهم وما جاء القرآن والحديث إلا على طرقهم وأساليبهم، من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب، لقال: أسوي العوج، وهو في القرآن كثير من (إنا عرضنا الامانة)، الآية (1) و (قيل يا أرض ابلعي) الآية (2).
فإن قلت: لم قدم الأمر بالإدبار هنا وأخره في الحديث الذي في أول الباب؟
قلت: إذ قد علمت أن لا إقبال ولا إدبار حقيقة، وإنما هو تصوير وتمثيل فلا حرج في تقديم كل واحد منهما ولا تأخيره، غير أن التصوير بتقديم الإدبار كما هنا أشد ملاءمة لما تألفه النفوس وتسكن إليه الطباع في مثله، فإن المصنوع عند فراغ الصانع من صنعته لابد وأن يكون حاضرا عنده فلا يتصور إقباله إلا بعد إدباره؛ لكن لما كان الأمر على ما تلوناه صح كلا الأمرين.
* قوله (عليه السلام): ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا إلخ [ص 21 ح 14] اعلم أنه يرد على ظاهر هذا الحديث الإشكال من وجوه أربعة:
الأول: أنه قال: إن لكل واحد من العقل والجهل خمسة وسبعين جندا مع أنها ثمانية وسبعون.
الثاني: أنه كرر الحرص فجعله ضدا للتوكل وضدا للقنوع، وجعل ضد الفهم الحمق في موضع والغباوة في موضع آخر، والبلاء جعله ضدا للعافية تارة وللسلامة أخرى.
الثالث: أنه قال: العلم وضده الجهل. جعل الشيء جندا لنفسه.
الرابع: أنه قال: الإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة وضدها الغضب، والظاهر أن الإيمان والتصديق واحد
صفحة ٤١
وكذا الكفر والجحود والرأفة والرحمة وجعل السخط ضد الرضا، والسخط هو الغضب، فيكون السخط ضد الرحمة، والغضب ضد الرضا أيضا، وجعل العدوان ضد القصد، والجور ضد العدل، والكبر ضد التواضع، والتطاول ضد الخضوع، والعدوان والجور واحد، وكذا القصد والعدل، والكبر والتطاول، والتواضع والخضوع، وجعل الغباوة ضد الفهم، والبلادة ضد الشهامة، والغباوة هي البلادة، وجعل الإنكار ضد المعرفة، والجحود ضد التصديق، والمعرفة هي التصديق، وكذا الإنكار والجحود.
ووجه التفصي عنها: أما عن الأول والثاني فما ذكره شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن [صاحب المعالم] طاب ثراه وهو أن بعض رواة هذا الحديث روى بعض ألفاظه المتقابلة بالمعنى ونقله بلفظ مرادف للفظه الأصلي، ورواه البعض الآخر بلفظه الأصلي مع اتفاق الكل على إبقاء ما يقابله على حاله ورواته بلفظه، فحصل التكرار والزيادة، فجمع المؤلفون (1) بين الروايتين على أنهما واحدة، وأخذه المصنف طاب ثراه من تأليفه على حاله، فحصل التكرار والزيادة كما ترى، فالقنوع والتوكل بمعنى وضده الحرص، وكذا الغباوة والحمق والضد الفهم، وكذا السلامة والعافية والضد البلاء، فرجع الجند إلى خمسة وسبعين وسلم من التكرار.
وأما عن الثالث فهو أن المراد بالعقل هنا كيفية نفسانية شبيهة (2) بالعصمة ينبعث عنها الانقياد لأوامر الله سبحانه ونواهيه في أغلب الأوقات، فهذه الكيفية لم يوضع لضدها لفظ يعبر عنه به، ويلزم ذلك الضد الجهل لا محالة فعبر به عنه، وحيث جعل من الجند أريد به معناه الحقيقي فسقط عنه الإيراد المذكور.
وأما الجواب عن الرابع فهو موقوف على تفسير هذه الألفاظ التي أدعي اتحاد
صفحة ٤٢
معانيها بغيرها ليظهر بطلان تلك الدعوى، فنقول ومن الله العصمة: اعلم أنه لم يرد بالضد هنا معناه المصطلح، بل الأعم منه ومن مطلق التقابل؛ بل التخالف، فالإيمان عبارة عن التصديق بما علم مجيء النبي (عليه السلام) به بالضرورة، أعني قبول النفس له والإذعان به من غير جحود ولا إباء مع الإقرار به باللسان، والكفر عدم الإيمان عما من شأنه ذلك، سواء كان معه جحود أم لا، فهما ضدان بالمعنى المذكور وإن كان بينهما تقابل العدم والملكة اصطلاحا، والتصديق المقابل بالجحود هو الإذعان والانقياد لأوامر الله سبحانه ونواهيه ولا بشرط مقارنة الإقرار باللسان له، فتغاير الإيمان، والجحود إنكار الشيء مع العلم به فغاير الكفر، هذا إن حملناه على معناه المشهور، وإن خصصناه وزدنا مع اعتقاد إمامة الأئمة الاثني عشر " ع " كما جاءت به الأخبار عنهم (عليهم السلام) فالاندفاع أظهر.
وأما الرأفة والرحمة فالرأفة أشد الرحمة فهي أخص، والغضب ثوران القوة السبعية لإرادة الانتقام، والسخط أن لا يرى الإنسان أنعم الله سبحانه عليه واقعة موقعا (1) فتغايرا.
والقصد استقامة طريق الشخص فيها [ف] يختص به من الأعمال التي لا يتعدى أثرها إلى غيره، والعدوان عدم تلك الاستقامة والعدل استقامة الطريق مطلقا والجور مقابله؛ ولهذا تراهم ينسبون العدل والجور للملوك، فغاير القصد العدل والجور العدوان.
وأما كبر كعنب فهو مصدر كبر ككرم فهو كبير ويلزمه العز فهو ضد تواضع، أي تذلل، وأما تطاول بمعنى امتد وارتفع وتفضل فهو ضد الخضوع والانخفاض، فتغاير الكبر والتطاول لدلالة صيغة الثاني على قصد المعنى دون الأول، وكذا التواضع والخضوع لمثل ما ذكر.
صفحة ٤٣
وأما الغباوة - وهي عدم التفطن لما يلقى إلى من قامت به - فهي ضد الفهم وهو التفطن له، والبلادة - وهي عدم الاستعداد لإدراك الشيء - فهي ضد الشهامة وهي ذكاء الفؤاد وتوقده والاستعداد لإدراك ما يلقى إليه، فحصلت المغايرة بين الغباوة والبلادة وكذا بين الفهم والشهامة.
وأما بيان المغايرة بين التصديق والمعرفة فهو غني عن التوصيف له بما ذكروه من الفرق بين العلم والمعرفة والتصديق هو ذلك العلم بعينه.
وأما الإنكار والجحود فالجحود إنكار الشيء مع العلم به والإنكار أعم فتغايرا.
هذا غاية ما تيسر لي من الكلام في هذا المقام ومن الله التوفيق وبه الاعتصام.
* قوله (عليه السلام): والرضا إلخ [ص 21 ح 14] أي بما قسم الله له. والسخط أن لا يرى ما أعطاه الله واقعا منه موقعا.
* قوله (عليه السلام): وضده السهو [ص 22 ح 14] أي الغفلة.
* قوله (عليه السلام): وضده الشوب [ص 22 ح 14] هو الخلط.
* قوله (عليه السلام): وضدها الإضاعة [ص 22 ح 14] (أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات) (1).
* قوله (عليه السلام): والحج [ص 22 ح 14] هو الكف عما أخذ الله على العباد الميثاق في تركه، أي أمر تركه.
* قوله (عليه السلام): وضدها الرياء [ص 22 ح 14] هو إراؤك الشيء على خلاف ما أنت عليه، فهو ضد للحقيقة وهي إراؤك الشيء على ما أنت عليه.
* قوله (عليه السلام): وضده الحمية [ص 22 ح 14] يقال: حما الشيء حميا وحمية وحماية:
منعه.
* قوله (عليه السلام): والتهيئة [ص 22 ح 14] يقال: تهيأ لكذا تهيئة، أي استعد، وضدها
صفحة ٤٤
البغي، أي الظلم على النفس وهو عدم التهيؤ للحساب.
قوله (عليه السلام): وضده الخلع (1) [ص 22 ح 14] قد كثر على ألسنتهم: خلع فلان عذاره وخلعت عذاري في حب فلان، والعذار الحياء، فأراد صلوات الله عليه هنا خلع العذار، وهو ترك الحياء.
* قوله (عليه السلام): والقوام إلخ [ص 22 ح 14] قوام - كسحاب -: ما يعاش به، والمكاثرة :
المغالبة لكثرة المال.
* قوله (عليه السلام): والحكمة [ص 22 ح 14] [أي] العدل، وضدها الهوى: الميل.
* قوله (عليه السلام): وضده الاغترار [ص 23 ح 14] هو إطماع النفس بالباطل فيلزمه ترك الاستغفار.
* قوله (عليه السلام): وضده الاستنكاف [ص 23 ح 14] هو الأنفة ويلزمه ترك الدعاء.
قوله (عليه السلام): وضدها العصبية (2) [ص 23 ح 14] المضادة على نسخة الفرقة ظاهرة، وأما على نسخة العصبية فلكون الفرقة لازمة لها، والأولى نسخة الفرقة؛ لأنه متى وجد لفظ موضوع للضد عبر به عنه، وإنما عبر باللازم في مواضع لم يكن لمعنى الضد لفظ موضوع كترك الدعاء والاستغفار وضد العقل المبحوث عنه هنا كما مر.
قوله (عليه السلام): وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو إلخ [ص 23 ح 14] " سائر " هنا بمعنى البقية، و " ذلك " إشارة إلى " أحد " المقدر المنفي العام في قوله:
" ولا تجتمع هذه الخصال كلها " إلخ، أي لا يجتمع مجموعها في أحد إلا في نبي إلخ والظرف بعده حال من اسم الإشارة، وساغ مجيئه منه مع كونه مضافا إليه؛ لأنه أحد
صفحة ٤٥
المواضع التي جاز فيها ذلك كقوله تعالى: (و نزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا) (1) ومن البيانية قد تكون مع مجرورها حالا كما هنا، وقد تكون صفة كعندي خاتم من ذهب، أي كان من ذهب.
والمعنى أن مجموع هذه الخصال لا يجتمع في أحد إلا فيمن ذكر، وأما بقية ذلك الأحد الباقية بعد الاستثناء حال كونهم أحد الباقين من موالينا فإن أحدهم، أي الباقين " لا يخلو " الحديث (ظ)، فعلى هذا الضمير في " أحدهم " يرجع للسائر باعتبار المعنى لا لموالينا؛ لاستلزامه خلو الجملة الواقعة خبر المبتدأ - أعني سائر ذلك - حينئذ عن رابط إلا أن يجعل من قبيل (إن الذين آمنوا وعملوا الصلحت إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) (2).
* قوله (صلى الله عليه وآله): إنا معاشر الأنبياء إلخ [ص 23 ح 15] قال شيخنا البهائي - أسكنه الله فردوس جنته -: أعاشر أبناء الزمان بمقتضى عقولهم لئلا يفوهوا بإنكاري، وأظهر أني مثلهم تستفزني صدوف الليالي في عشي وإبكار، فإذا كان هذا حال العلماء فما الظن بالأنبياء؟
قوله (عليه السلام): إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع [ص 23 ح 16] [الأطماع] جمع طمع، أي تستخفها، فلا تزال متطلعة إلى حطام الدنيا وزخارفها. " وترتهنها المنى " جمع منية وهي ما يتمنى الإنسان حصوله، أي تجعلها الآمال رهنا عالقا في يد المرتهن. " وتستعلقها الخدائع "، أي تجعلها الخدائع عالقة بها غير متطلعة إلى ما سواها بخلاف عقول العقلاء؛ فإنها على خلاف ذلك كله.
قوله (عليه السلام): لا يرتفع بذلك منه [ص 24 ح 19]
صفحة ٤٦
الإشارة ب " ذلك " إلى عدم العقل، والضمير في " يرتفع " عائد إلى الجار في قوله:
" إن لي جارا "، وفي " منه " [عائد] إلى ما مر من قوله: " كثير الصلاة، كثير الصدقة، كثير الحج " والتذكير والإفراد باعتبار ما مر كما قالوا في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق (1) أي كأن ما مر، وحرفا الجر في الموضعين للسببية، والمعنى لا يرتفع ذلك الجار، أي لا تعلو درجته عند الله لأجل تلك العبادة بسبب عدم عقله، ف " من " تعليل للمنفي والباء تعليل للنفي.
وحاصل المعنى أن عدم عقله سبب انحطاط درجته عند الله وإن كثرت عبادته، وهذا هو الموافق لمضمون الأحاديث السابقة.
قوله: فما الحجة على الخلق اليوم [ص 25 ح 20] لا يذهب عليك أن السؤال إنما كان عن جنس الإمام: أهو الكتاب كما يقولون، أم الإمام المعصوم كما نقوله نحن؟ فجوابه (عليه السلام) يخيل في بادئ الرأي أنه غير واقع موقعه إلا أنه عند التأمل قد أصاب المخبر؛ إذ معناه أن العقل يعرف به الصادق والكاذب منكم ومنهم، ف " العقل " مسند إليه و " يعرف به " مسند، ولا حذف ولا تجوز، ويحتمل أن يراد الحجة " العقل " فجملة " يعرف به " حينئذ حال والمسند إليه محذوف، وتسمية الحجة على العباد عقلا من باب المجاز؛ فإنها مسببة عنه، ووجه مطابقة الجواب للسؤال على كلا التقديرين ظاهر؛ إذ حاصل المعنى أن من راجع عقله عرف المحق عن الفريقين؛ فإن الدلائل الدالة على وجوب إرسال الرسل بعينها دالة على وجوب نصب الأوصياء المعصومين بعدهم ، فالقول ب " حسبنا كتاب ربنا " باطل.
صفحة ٤٧
قوله (عليه السلام): إذا قام قائمنا " الحديث " [ص 25 ح 21] قائم آل محمد - صلوات الله عليهم أجمعين - معروف، ووضع اليد على رؤوس العباد تمثيل وتصوير للطفه تعالى بهم، كما يصنع الراقي يده على رأس المصروع للنفث في عوذته، وإذا حصل اللطف بقيام القائم (عليه السلام) جمعت عقول العباد على أمر واحد هو القول بإمامته، (1) فترتفع من بينهم الفرقة وتتم به - صلوات الله عليه - عقولهم وتكمل بعد نقصانها، فضمير " بها " لليد، و " به " للقائم (عليه السلام)، و " الأحلام " جمع حلم بالكسر وهو العقل، عدل عنه كراهة تكرار اللفظ بعينه.
قوله (عليه السلام): دعامة الإنسان العقل " الحديث " [ص 25 ح 23] دعامة البيت: عماده، وقوله: " منه الفطنة "، أي منشعب منه ومنبعث عنه؛ لأنها من جنده ولوازمه، فإنها الشهامة بعينها، وقد مر أنها من جنده وكذا الفهم وأخواه، قال: " وبالعقل "، أي بما مر من العقل " يكمل " الإنسان " وهو "، أي العقل " دليله " وهاديه " ومبصره " المبصر - كمفخر - الحجة، " ومفتاح أمره " فإن المعرفة التي هي أصل كل شيء إنما تحصل به " فإذا كان " الإنسان بعدها " تأييد عقله " وقوته " من النور "، أي ولاية آل الرسول (عليهم السلام) كما فسره بها علي بن إبراهيم في قوله تعالى (وجعلنا لهو نورا يمشى بهى في الناس) (2) فإنه قال: " النور الولاية " (3)، أو أراد بالنور محمدا وأهل بيته، كما قال علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتب) (4) قال: " يعني بالنور النبي والأئمة (عليهم السلام) " (5). ومآل المعنيين واحد، فاللام في " النور " للعهد الخارجي، ولا شك أن من كان عقله مؤيدا بأخذ ما لا يدركه العقل من
صفحة ٤٨
النبي والأئمة (عليهم السلام) كان عالما بأحكام الشريعة؛ إذ لا علم سواه ولا يحمد الإنسان على غيره، بل قد يذم، كما قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى: (فرحوا بما عندهم من العلم) (1) يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان. (2) و " كان " أيضا " حافظا " لنفسه عن تعدي حدود الله " ذاكرا " له بقلبه ولسانه، " فطنا "، أي يقظانا في جل أوقاته " فهما " منتبها للحكم وإن خفي كما قال تعالى:
(ففهمناها سليمان) (3) " فعلم بذلك " التأييد " كيف " الحكم وعلى أي وجه العمل، " ولم " هو هاهنا، أي في دار التكليف " وحيث " الحكم، أي مكانه، أي من الذي يؤخذ عنه وينقل " وعرف " بذلك التأييد " من نصحه " وهم النبي وأئمة الهدى " ومن غشه " وهم أئمة الكفر والضلال " فإذا عرف ذلك "، أي ما مر من كيفية الحكم وما عليه الكون ومأخذ الحكم " عرف مجراه "، أي مجرى نفسه ومنقلبها في هذه النشأة وكيف تعمل لله، وعرف " موصوله "، أي ما يجب عليه وصله من الولاية كما فسره به علي بن إبراهيم في قوله تعالى: (و يقطعون ما أمر الله بهى أن يوصل) (4) قال: " يعني الولاية ". (5) وعرف بذلك أيضا " مفصوله "، أي ما يجب أن يفصل وهي ولاية أعدائهم " وأخلص " لله " الوحدانية " وخلعه عن الند والضد، وأخلص " الإقرار بالطاعة "، أي الإمامة، ولفظ " الإقرار " قرينة التجوز مع القرائن الحالية المعينة لذلك. ففي الكلام لف ونشر مشوش؛ فإن عرفان المجرى ناظر إلى كيفية العمل، وموصوله ناظر إلى من نصح، ومفصوله ناظر إلى من غش، وإخلاص الوحدانية إلى علة الكون، والإقرار
صفحة ٤٩
بالطاعة ناظر إلى حيث، فإن من أقر بها عرف مأخذ الأحكام.
" فإذا فعل ذلك "، أي حصل له العرفان بما مر " كان مستدركا لما فاته " من الأحكام في زمن الجهل " وواردا على ما هو آت " منها غير مستبدل به غيره، وكان " يعرف ما هو فيه " من الأعمال " ولأي شيء هو هاهنا "، أي في دار التكليف " ومن أين يأتيه "، أي من أين يأتي ما هو آت من الحكم، أي يعرف من أين يأخذه " وإلى ما هو صائر " إليه من الثواب أو العقاب، فإنه إذا عرف الناصح وتبعه كان مصير أمره إلى خير، وإذا عرف الغاش وتبعه كان على غير ذلك، وذلك كله من تأييد الله سبحانه العقل من النور وإلا فهو بنفسه غير مستقل بكثير من الأحكام الشرعية، هذا ومن نظر بعين التأمل وجد آخر الحديث مفسرا لأوله.
* قوله (عليه السلام) لا يفلح من لا يعقل إلخ [ص 26 ح 29] أي لا يفوز بالسعادة الأبدية إلا ذو العقل لما مر. " ولا يعقل "، أي لا يصير ذو عقل (1) ينتفع به " من لا يعلم "، أي من لا يعلم أحكام الشريعة ولم يأخذها عن أهلها، " وسوف ينجب من يفهم " أي من كان ذا فهم وتفكر فإنه سيهتدي للحق، " والعلم جنة "، أي وقاية من سهام الباطل. " والصدق " في العهد " عز " فإنه إذا صدق الله ما عاهده عليه دخل في المؤمنين الأعزاء " والجهل " بأحكام الشريعة " ذل "؛ لأنه وجه به عنهم.
وقوله: " بين المرء والحكمة نعمة، العالم والجاهل شقي بينهما " لام " المرء " جنسية وكذا " الحكمة " وهي علم الشرائع، والنعمة بالفتح مثلها في (ذرنى والمكذبين أولى النعمة) (2) ولام " العالم " و " الجاهل " استغراقية، وتنكير " نعمة " للتعظيم، والمعنى أن بين الجنسين نعمة، أي تنعم ورفاهة عظيمة لو علموا بمقتضى ذلك العلم لم يفتهم ولم يغب عنهم إمامهم، ولم يمنع ذو حق حقه ولأرتفع الفساد
صفحة ٥٠
من الأرض وكثرت الخيرات فيها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والأرض) (1) وله نظائر في القرآن، وجملة " العالم والجاهل " استينافية جواب عن السؤال من غير السبب، كأنه لما قيل بين هذين الجنسين رفاهية فقيل: هل ظفر بها أحد، فقيل: لا؛ لأن كل فرد من أفراد العالم والجاهل شقي، أي متعب، بينهما، أي بين الجنسين.
هذا، والقول بأن " نعمة " مضافة إلى " العالم " و " شقي " خبر عن " الجاهل " وحده فمما لا ينبغي الإصغاء إليه، يظهر ذلك بالتأمل.
قوله (عليه السلام): والفهم مجد [ص 26 ح 29] أي به نيل الشرف؛ إذ به يحصل نيل سعادة الأبد. " والجود نجح "، أي إنجاح وهو إنالة المسؤول بسرعة. " وحسن الخلق مجلبة للمودة "، أي هو جالب لها.
" والعالم بزمانه " وأنه لا يرفع عن كرامة ولا يخفض عن هوان " لا تهجم عليه اللوابس "، أي الشبه، جمع لابسة. " والحزم "، أي الضبط والاستيثاق " مساءة الظن " بالغير كائنا من كان إلا بعد إقامة الحجة، فترك لذلك فعليه الإباء وتتبع الدليل.
قوله (عليه السلام ): والله ولي من عرفه إلخ [ص 27 ح 29] لما أشار فيما مضى إلى الظلم من الأعداء - كما أوضحناه فيما سبق - أردفه بأن الله سبحانه ولي من عرفه، وفيه كناية عن " إنا نحن العارفون به فسينتقم لنا منهم " وهو " عدو من تكلفه "، أي جهله، وهو كناية عن " أن أول [- ئك] الظلمة وأتباعهم لم يعرفوا الله سبحانه ولا اعتقدوا وجوده ولا صدقوا رسوله فيما جاء به عنه، وإنما تكلفوا معرفته وحملوا الناس عليها وعلى القول بالرسالة حبا للرئاسة وصونا لما ادعوه من الخلافة " ولو لا ذلك لقال: وعدو من جهله أو لم يعرفه أو نحو ذلك.
* قوله (عليه السلام): والجاهل ختور [ص 27 ح 29] الختر: أشد الغدر.
صفحة ٥١
* قوله (عليه السلام): ومن كرم أصله [ص 27 ح 29] أي كانت طينته من فضل طينتنا.
* قوله (عليه السلام): غلظ كبده [ص 27 ح 29] أي قسى قلبه.
* قوله (عليه السلام): ومن فرط تورط [ص 27 ح 29] أي ضيع الأحكام ولم يراع حدودها وقع في الورطة، وهي ما لا نجاة منه.
* قوله (عليه السلام): عن التوغل [ص 27 ح 29] أي الدخول.
* قوله (عليه السلام): ومن لم يعلم لم يفهم إلخ [ص 27 ح 29] إذا حملت العلم المنفي هنا على التصديق بوجود الواجب تعالى، والفهم على ما يتفرع على ذلك العلم من التصديق بالرسالة والإمامة والأحكام الشرعية وما هو من هذا القبيل فالترتيب في الكل ظاهر لاخفاء فيه.
قوله (عليه السلام): ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل [ص 28 ح 33] أي ليس بين الإيمان والكفر واسطة إلا قلة العقل، وأراد بالإيمان الكامل الذي يأتي وصفه في كتاب الإيمان، لا الإيمان الذي إذا خرج عنه الإنسان لم تجر عليه أحكام المسلمين، فلا إشكال في الحديث.
قوله (عليه السلام): بالعقل استخرج غور الحكمة إلخ [ص 28 ح 34] الغور: قعر البحر ونحوه، ففي الكلام استعارة مكنية، فإنه شبه في النفس الحكمة - وهي علم الشرائع - بالبحر البعيد الغور ثم أثبت لها الغور تخييلا. هذا على رأي صاحب التلخيص، وأما على رأي السكاكي وقدماء البيانيين فتقريره بوجه آخر كما لا يخفى ، والمعنى أنه بالعقل استخرج ما في غور الحكمة من لطائف در (1) العبارات وغرائب لآلي القربات، ولو كان ذلك الاستخراج بالأخذ عن ينابيع الحكمة وأهل بيت النبوة، فإن رتبهم إنما علمت بالعقل، ثم عكس وقال: " وبالحكمة "، أي
صفحة ٥٢