حاشية محيي الدين زاده على تفسير القاضي البيضاوي
تصانيف
يكون من عند الناس، لأن ما يوجد من عندهم من الكلام المنظوم والمنثور إنما يوجد مفرقا منجما حينا بعد حين شيئا بعد شيء حسبما يعن لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة.
فلما رأوا القرآن العظيم هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات بعد آيات على حسب النوازل وكذا الحوادث قالوا: هذا لا يشبه كلام الله تعالى وإنا لفي شك منه مريب لأنه لو كان كلام الله تعالى لأنزله جملة واحدة على خلاف عادة الناس كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة [الفرقان: 32] فأنزل الله تعالى: وإن كنتم في ريب أي إن ارتبتم في هذا الذي نزل على التدريج فهاتوا أنتم نجما من نجومه فإنه أيسر عليكم من أن ينزل دفعة فيتحدى بالمجموع. فقد جعل ما اتخذوه وسيلة إلى القدح وسيلة إلى تبكيتهم وإلزامهم وهي غاية التبكيت والإلزام فإنهم طولبوا مرة بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله [الإسراء: 88] ومرة بأن قيل لهم: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود: 13] ومرة بسورة مثله [يونس: 38] فأتوا أنتم بنجم واحد من نجومه أي سورة من أقصر سورة أو آيات شتى مفتريات فما هو الحجة في إثبات ثبوته عليه الصلاة والسلام هو القرآن العظيم. إلا أنهم لما ارتابوا في حجته وطعنوا فيه باحتمال كونه مفترى أزال شبههم بهذه الآية حيث بين بها إعجازه فإنهم إذا عجزوا عن الإتيان بما يوازي أقصر سورة منه ظهر كذبهم في تجويز الاختلاق والافتراء وتبين كونه من عند الله تعالى كما يدعيه من نزل عليه وعرفهم بها ما يتعرفون به إعجازه وكونه نازلا من عند الله تعالى كما يدعيه من نزل عليه، وهو أن يمتحنوا أنفسهم ويجربوا طبايعهم أنهم هل يقدرون على إتيان ما يوازي أقصر سورة ما أتى به من لم يكتب ولم يقرأ ولم يخالط القراء؟ فهو تعالى لما بين بهذه الآية ما هو الحجة على نبوته عليه الصلاة والسلام بعد ذكره الحجة على وحدانيته صارت الآيتان بمنزلة أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وتبين ما يكون حجة عليهما. وكلمة «إن» في قوله تعالى: وإن كنتم في ريب حرف شرط أصله أن يستعمل في الأمور المحتملة المشكوك فيها، والله تعالى منزه عن أن يشك في أمر من الأمور فهو عالم أنهم مرتابون إلا أنه تعالى ذكر كلمة «إن» فيما هو متحقق الوقوع جريا على عادة العرب في محاوراتهم كقولهم: إن كنت إنسانا فافعل ما يقتضيه النظر مع عملهم بأنه إنسان، وقولهم: إن كنت ابني فاطعني، فخاطبهم الله تعالى على العادة الجارية فيما بينهم. وقيل: كلمة «إن» ههنا بمعنى «إذا» قال أبو زيد: وتجيء كلمة «إن» بمعنى «إذا» نحو قوله تعالى: وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [البقرة: 278] وقوله: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران: 139] وقوله: «في ريب» خبر «كان» فيتعلق بمحذوف أي إن كنتم واقعين فيه جعل الريب بمنزلة الظرف المحيط بهم لكثرة وقوعه
صفحة ٣٨٩