ولقد تكاتف العباسيون والعلويون على إسقاط الدول الأموية ... ثم انفرد العباسيون بالدعوة على أساس آخر. (3) نشأة الدولة العباسية
ذلك أن الذي قام بهذه الدعوة أبو العباس عبد الله بن محمد، وكان على جانب عظيم من الدهاء والسياسة.
فأسس نظرية جديدة خلاصتها: أن زعامة الإسلام الروحية بعد مقتل الحسين لم تنتقل إلى علي بن الحسين، إنما انتقلت إلى محمد ابن الحنفية، الذي أوصى بهذه الزعامة إلى ابنه عبد الله أبي هاشم، وهذا أوصى عند وفاته إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهذا أوصى إلى أبي العباس عبد الله بن محمد، ومن بعده إلى أبي جعفر المنصور، فراجت هذه الدعوة في بعض البلاد، وعاونهم في ذلك أبناء فاطمة أنفسهم؛ ظنا منهم أن تعاون البيتين أولا يكسبهم قوة، حتى إذا أسقطوا جميعا الدولة الأموية سهل تغلبهم على بني عبد الله بن عباس.
وكانوا في ذلك مخطئين ... بل كان الأمر هو العكس؛ فإنه لما استطاع البيتان إسقاط الدولة الأموية تغلب بيت العباس على بيت فاطمة، وأصبح للعباسيين خصمان كبيران: الأمويون والعلويون، فأخذوا ينكلون بهم جميعا، وقلما خلا خليفة عباسي من قتل إمام علوي، ولما حضرت الوفاة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أوصى بالخلافة لأولاده: إبراهيم المعروف بإبراهيم الإمام، وأبي العباس عبد الله، وأبي جعفر الملقب بالمنصور فتولى أبو العباس الخلافة، ووضع للدولة بعض أسسها، ونكل بأعدائها، وجاء أبو جعفر المنصور فسار سيرة أخيه، وأكمل الأسس، وأتم تشريد الأعداء.
وجاء بعده المهدي فصادف جماعة ينقمون على الإسلام نجاحه، ويودون إرجاع الدولة الفارسية كما كانت، وديانة الفرس الوثنية كما كانت، فقتلهم المهدي تحت ستار أنهم زنادقة، وعهد بالخلافة إلى ابنه الهادي ثم الرشيد ... فجاء الهادي يريد أن يخلع الرشيد، ويحمل الناس على البيعة لابنه جعفر، وكان الهادي شرسا قويا جبارا، وكان الرشيد لينا مطواعا، فلما علم من أخيه ذلك مال إلى إجابته.
ولكن عصاه يحيى البرمكي - وكان ولي أمره إذ ذاك - ولما اشتد الهادي على يحيى البرمكي والرشيد، نصح يحيى للرشيد بأن يسافر إلى مكان بعيد؛ ليختفي عن أعين الهادي فلا يذكر هذه المسألة إلا لماما.
على أريكة الخلافة
تولية الرشيد
كان من حسن حظ الرشيد أن لم تطل خلافة الهادي فمات سريعا، ومات فجأة ... فلم يغير البيعة، وتولى الرشيد مكانه، وجلس على العرش، ونال حظوة عظمى، فلم يعرف الغرب عن الشرق كما عرف عن الرشيد، وذلك لأسباب كثيرة، أولها: شدة العلاقة التجارية والسياسية بين الرشيد وملوك أوروبا في ذلك العهد، وثانيها: ما صورته كتب الأدب والشعر عن مجالس الرشيد، ثالثها: القصص والحكايات التي روتها عنه ألف ليلة وليلة، من صور رائعة جذابة ... هذه صورة له يتعسس بالليل مع جعفر البرمكي، ومع خادمه مسرور في أزقة بغداد، وهذه صورة أخرى يمتحن فيها الفتيات، وهذه صورة ثالثة في المنادمة على الشراب والغناء، وهذه صورة رابعة ينصف فيها المظلوم، ويحقق العدالة، وعلى الجملة، فقد صور ألف ليلة وليلة الرشيد تصويرا بديعا لطيفا، كما صور لنا أسواق بغداد، وكيف تزخر بالسلع، وكيف تتوارد عليها من كل مكان، وحركة التجارة نشيطة مليئة.
هارون الرشيد على أريكة الخلافة.
صفحة غير معروفة