وكان الخلفاء من عهد معاوية ومن بعده قد تعدوا الإسلام وأوامره إلى رغباتهم وميولهم، ولم يشذ عن هذا إلا عمر بن عبد العزيز؛ حيث أحاط نفسه بعشرة من كبار التابعين والفقهاء العالمين بأصول الإسلام، حتى لا يفعل فعلا إلا استشارهم وعمل برأيهم، أما من عداه من عهد معاوية فكانوا يعملون برأيهم هم، وافق روح الإسلام أو خالفه.
فليس الرشيد بدعا من الخلفاء، وإنما هو نتاج كل من قبله، يسير سيرتهم، ويتبع ما تمليه عليه بيئته ... فلو أن خليفة في العصر الحاضر أمر بقتل رجل من رعيته لكان جرما شنيعا يحز في صدور الناس ولا ينسونه.
نعم، يجب أن تقاس الأخلاق في كل زمان ومكان بحسبها؛ فلو خرجت امرأة سافرة في عصرنا ما عد هذا جريمة، بل لو خرجت محجبة لعد حجابها جريمة، والأمر على العكس منذ خمسين عاما؛ فلو خرجت امرأة حرة سافرة لانتقدها الناس، وعدوا ما تأتي به منكرا كبيرا، وهكذا تتطور الأخلاق بتطور الزمان.
وكان الرجل يعير بأنه لم يعرف أبوه ... كم لاقى زياد من العناء لمثل هذا، وهو اليوم في بعض بلدان أوروبا يعامل كمعاملة من عرفت آباؤهم.
كل هذا يخفف من الحملة على الرشيد وأمثاله في زلاتهم، كسفكه دماء البرامكة من غير محاكمة ولا معرفة بجرم، ومثل مصادرته للأموال وبعثرته مما صادر ونحو ذلك، والله لا يؤاخذ الناس إلا حسب ظروفهم وبيئاتهم ومقدار عقولهم.
علاقة الرشيد بشارلمان
ومما زاد في شهرة الرشيد علاقته بالدول الغربية، وتوارد الوفود عليه وإرسالها؛ فقد تحالف - مثلا - مع شارلمان إمبراطور فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وسفرت بينهما سفارات طويلة الأمد مرتين: الأولى استغرقت ما بين عامي 798 و801، وكانت السفارة في المرة الأولى مؤلفة من سفيرين إفرنجيين، ومعهما مترجم يهودي يعرف العربية يقال له إسحاق، وكانت السفارة تتضمن أشياء ثلاثة: أن يعهد الرشيد إلى شارلمان بالقيام بمصالح العباسيين فيما يفتحه شارلمان من بلاد الأندلس، وأن يثير شارلمان الحزب القائم بالدعوة العباسية في الأندلس؛ وذلك لاشتراك الطرفين في عداء الأندلس؛ الرشيد لخروج بني أمية عليه، وشارلمان لأن الأندلس اقتطعها المسلمون من دولته؛ ذلك أن السفاح لما شدد النكير على الأمويين وقتلهم فر عبد الرحمن - الملقب فيما بعد بالداخل - هائما على وجهه هو وأخوه، واختفى في بعض البلاد، فلما أحس عبد الرحمن وأخوه بالعباسيين يقدمون فرا وعبرا النهر، فوعدهما العباسيون بالنجاة، وصدق أخوه، ورجع فذبح.
ولم يصدق عبد الرحمن، وسار إلى فلسطين، ومنها إلى إفريقية، ثم إلى الأندلس، وأمكنه أن يخضعها لأمره منتهزا فرصة وجود الخلاف في البلاد والنزاع القبلي بين اليمنيين والمضريين.
وأخيرا استولى على قرطبة، ثم بقية الأندلس، ونشر الأمن في أرجائها، وغاظ ذلك المنصور، ثم الرشيد من بعده؛ إذ كانت الأندلس قد خرجت من أيدي العباسيين.
وفي سنة 777 ائتمر زعماء العرب في الشمال الشرقي من الأندلس، وألفوا كتلة قوية، وانتقضوا على عبد الرحمن، وتعاقدوا مع شارلمان الذي كان مهادنا للرشيد، ومناصرا له، فرحب الرشيد بهذه الفكرة.
صفحة غير معروفة