ويفرح بالمولود من آل برمك
بغاة الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ولا يبعد أن يكون أبو إسحق الموصلي بحكم بلديته للبرامكة، كان ينقل إليهم ما كان يدور في مجلس الرشيد مما يتصل بهم من قريب أو بعيد، ولكن الرشيد أبقى على رأسه لما طاح برؤوسهم؛ لأنه لم يكن يتدخل في سلطة الرشيد، ولا سلطة البرامكة، ولأن الرشيد كان في حاجة إليه؛ إذ كان لا يستغني عن صوت جميل، ولحن جميل، وليس للموصلي في ذلك نظير.
وعلى الجملة كان للرشيد ذوق مرهف في سمع الغناء ونقله، حتى ليحكون أنه سمع الموصلي مرة فقال له: إنك أخطأت في لحنك مرتين ... فعجب الموصلي من ذلك، وخرج يتحدث به، وكان مما عرف عنه أنه أمر بأن يختار له مائة صوت «لحن» أو«دور»، وهي التي بنى عليها أبو الفرج الأصفهاني كتابه الأغاني، ثم أمرهم أن يختاروا منها عشرة، ثم أمرهم أن يختاروا من العشرة ثلاثة، فكانت هذه الثلاثة لحنا لمعبد، ولحنا لابن سريج، ولحنا لابن محرز.
الأصمعي وأبو عبيدة
ومجلس آخر هو مجلس جد ولغة وشعر، يكون عماده الأصمعي وأبا عبيده والكسائي؛ فأما الأصمعي فكان رجلا عربي الأصل محتفظا بعربيته في ملبسه ونبرات صوته، وقد رحل إلى البادية وسمع من أهلها لغة وأدبا، وعلى الأخص «ملحا» ونوادر، فكان يتخير منها ما يناسب مجلس الرشيد، ويتحدث إليه، ويسأله الرشيد عما يجهله، ويسمع منه ملحه ونوادره، ويتفقده الرشيد حين يغيب عنه.
وأما أبو عبيدة فيهودي الأصل، ليس له خفة روح الأصمعي ولا ملحه ولا نوادره، وإنما كان له مهارة في ناحية أخرى يمتاز بها، وهي معرفته بأخبار الأمم من عرب وغيرهم، وكان يسر الرشيد بذكره مثالب بني أمية، هذا إلى علم باللغة واسع، وإن لم يبلغ مبلغ الأصمعي؛ سأله الفضل بن الربيع يوما: «كيف يعبر الله سبحانه عن شيء لم تعرفه العرب ولم تره؛ إذ قال:
طلعها كأنه رءوس الشياطين ؟» فقال: إن العرب إذا عرفت شيئا ولو لم تره ذكرته في كلامها؛ كالشاعر الذي يقول: «ومسنونة زرق كأنياب أغوال.»
صفحة غير معروفة